"لبنان يقايض"... ولن تستحي المنظومة من ارتكاباتها

نادر فوز

الجمعة 2020/06/26
عادت بنا السلطة آلاف السنوات إلى الوراء. أعادتنا إلى عصر مقايضة بضائعنا لتأمين حاجات أساسية أو غذائية. المقايضة، نظام تجاري بديل عن العملة ونظامها، وكل ما فيها من استغلال وزيف معنوي وتحكّم واستبداد. خدمة مقابل أخرى، جهد مقابل أخر، أو سلعة مقابل أخرى.

لكنّ واقع الحال اللبناني يقول إنّ حاجات الناس باتت تدلّ على حجم الأزمة والإفلاس والانهيار. جزمة مقابل علبة حليب. فستان مقابل كيس أرز وبضع ليترات من الزيت. كيلو زعتر بلدي مقابل دجاجة بلدية وديك بلدي. "صواني" ستانلس ستيل مقابل حصص غذائية. كبايات كريستال مقابل كيس حفاضات. عروض كثيرة تنشر على صفحة "لبنان يقايض" على موقع فايسبوك، فيها ما يكفي للقول إنّ اللبنانيين، أو جزءاً كبيراً منهم، باتوا يقاتلون باللحم الحي لتأمين حاجياتهم. قد تكون مقايضة جهاز إلكتروني بآخر، أمراً عادياً وطبيعياً. لكن الحقيقة تقول إنّ بعضاً من مواطنينا باتوا يبادلون أثاث منازلهم لقاء أكل وشرب. ليس في ذلك أي مذلّة طبعاً، لكن فيه الكثير من الدلالات على الأحوال وسوئها.

لا ذلّ ولا مهانة
ليس في مبادلة عائلة لفرشةٍ أو سريرٍ بحصص غذائية، أي ذل أو مهانة. هذا بديل منطقي وواقعي عن التذلّل أمام بيوت زعامات أو نواب أو أحزاب. فيه ما يكفي من عزّة نفس لعدم الانصياع إلى زبائنية سياسية هنا أو تسوّل انتخابي هناك. في ذلك تأكيد على عدم انتظار مال سياسي أو مساعدات ومحسوبيات. وفيه فقدان للأمل بقدرة السلطة الحاكمة على تخفيف الأعباء عن مواطنيها. وتأكيد على انعدام الثقة بالعصابة الحاكمة لتأمين أي حلّ أو إنقاذ للخروج من الأزمة. فيه تكريس لواقع أنّ لائحة الكماليات تتسّع، ولم تعد تنتظر قراراً حكومياً أو اقتصادياً، أو ضرائب ورفع دعم. من تلقاء أنفسهم، وضع المواطنون لأنفسهم ضوابط اقتصادية. ليس بمقدورهم إلا ذلك أساساً. متروكون وحدهم، كما دائماً في وقت الشدّة.

لبنان يقايض
"لبنان يقايض"، مبادرة من ضمن مبادرات أخرى تهدف إلى تعميم عملية المقايضة بين الناس بهدف "تبادل المنافع من خلال تبادل السلع أو الخدمات بين طرفين"، بحسب ما تعلنه الصفحة على فيسبوك. وقبل ساعات، أطلّ أحد القيّمين على الصفحة، حسن حسنة، لإعادة التأكيد على مفهوم الصفحة غير التجاري وغير الربحي، رافضاً "تناول ما ينشر فيها في الإعلام من باب أن تشحدوا علينا أو باب التعاطف السلبي أو الانتقاد، هو أمر مرفوض رفضاً باتاً". من أهداف المجموعة تأمين بدائل للناس، وتشجيع الحرفيين والمزارعين والصناعيين وكل من قادر على إنتاج بضائع أو مقايضتها. وأشار حسنة إلى أنّ عدداً من متابعي الصفحة ومن نشروا عليها سلعاً للمقايضة "انزعجوا من الذي حصل (إعادة نشر منشوراتهم في الإعلام)، لا يمكن أن نتحمّل مسؤولية ما حدث، لكن من الواجب الاعتذار من أي شخص شعر بالإهانة". كما يؤكد أنّ الهدف من كل الصفحة "نبيل، وما حدا لازم يستحي من يلي حصل".

إهانات السلطة
لكن فعلياً، ثمة من يجب أن يستحي مما حصل، ومما سيحصل. ثمة سلطة مسؤولة عن الواقع الذي بات يعيشه اللبنانيون. ثمة مسؤولون قادونا وقادوا البلد إلى هذه الأزمة. فيها من راكم الأموال والحسابات المصرفية، والعقارات والشركات والأسواق والتجارة والاحتكار. فيها أسّس نظام المحاصصة وتماشى معه وغطّاه واعتاش منه. فيها من لا يزال يصرّ على أن الانهيار مؤامرة. ومن يعترف بها يحمّل مسؤوليتها للثورة حيناً ولكورونا حيناً آخر. ثمة مسؤول عليه أن يستحي مما فعله ومما لم يفعله طوال عقود، أو حتى مما تغاضى عنه. ثمة من يجب أن يشعر بالذل والمهانة لأنه قاد شعباً كاملاً نحو الهواية والخراب. من قلّة حكت، يمكن استخلاص أنّ هذه السلطة تعيش في عالم آخر. وزيرة الإعلام، منال عبد الصمد، اكتشفت قبل أيام أنّ "الأسعار نار والشعب جوعان". حرمها عملها لساعات متأخرة طوال الأشهر الماضية من النزول إلى السوق. شعرت بالأسى والحزن لأنه "بيعزّ عليّ شعب كريم يصير فيه هيك". ربما نسيت أن رئيس الحكومة، حسان دياب، نزل السوق قبلها حيث أكد أنّ "الأسعار غير نافرة". في حين طلب وزير الاقتصاد، راوول نعمة، من اللبنانيين "عدم شراء البيض بسبب سعره المرتفع، أو أن يذهبوا إلى السوبرماركت الرخيصة".

أما نائب اسمه ميشال ضاهر، فأطلّ على اللبنانيين ليقول لهم إنّه نتيجة أزمة الجوع والدولار "بات البلد رخيصاً". أولم مع صديقين له في بيروت بـ"360 ألف ليرة، يعني 60 دولار على الشخص". تناول زجاجة بيرة بـ20 ألف ليرة، يعني 3 دولارات". "البلد رخيص، بكل معنى الكلمة رخيص". النائب المذكور يحسب بالدولار. الدولار المفقود من الأسواق، الممنوع على اللبنانيين لمسه. يحصلون عليه معنوياً من خلال تطبيقات مصارفهم على هواتفهم، أو من خلال صرّاف يحوّله بنفسه إلى شركة طيران أو عامل أجنبي أو جامعة في الخارج.

ثمة منظومة أفلست البلد، نهبت خيراته، جوّعت شعبه، هرّبت الأموال إلى الخارج، ضربت زراعته وصناعته، هجّرت شبابه. أقلّ الإيمان أن تستحي. أن تخجل من نفسها. لم يجرؤ الشعب بعد على طمرها في مستوعبات النفايات، كما حصل في بلدان عدة، إلا أنّ عليها أن تركض بنفسها إلى أقرب حاوية وتجلس عليها ديكاً صيّاحاً. ولتصِح حين تشاء، كما تشاء وكيفما تشاء، المهم أنّ صرحها مزبلة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024