علاء فرحات وشباب الكورة: الثورة زراعة.. والمغتربون يتبرعون

أيمن شروف

الخميس 2019/11/28

تجري أمور عدة في زمن الثورة. قد لا تكون فعلاً ثورياً في الظاهر، لكنها مُستوحاة من روح هذه الثورة وناسها وشعاراتها. التغيير في كل شيء أصبح أسرع. العمل الجماعي والأهلي تحوّل من عبء إلى مطلب، وحل لمشاكل عدة تواجهها الناس. في زمن الثورة، تكبر مساحة الحب فيتحول الناس من سجناء واقعهم الميؤوس منه، إلى حراس انتفاضة الكرامة، وممولي مسيرتها التي بشكل أو بآخر، قد تطول، تتأخر، تخفت، تعود، تبطأ. لكن في النهاية، تنتصر.

حلول مبتكرة
قبل أن تبدأ ثورة 17 تشرين، كانت هناك الكثير من الإشارات التي توحي بأن البلاد تتجه نحو الأسوأ. من الوضع الاقتصادي المتردي والذي حاولت السلطة مرّة أخرى تأجيل انفجاره عبر استدانة جديدة تُضاف إلى استدانات سابقة، واقع معاش قبل الثورة بكثير، وصولاً إلى انهيار غير معروف حجمه حتى الآن. أمر سابق لما حصل في 17 تشرين. لكن، قبل ذلك الوقت لم يكن هناك من يحاول أن يُغيّر أو أن يبتدع الحلول، مستدامة كانت أو مرحلية. أتى 17 تشرين ليعيد الزخم  والعمل الجماعي قبل أي شيء آخر.

منذ بدء الثورة وكما كان متوقعاً: الدولة غائبة، الدولار غير متوفر، التُجار يحتكرون السوق وتحت حجج متعددة يتلاعبون بالأسعار ويهددون الناس بأكثر ما يمس حياتهم اليومية: الطحين والمواد الغذائية. هنا تحديداً، قرر علاء مع مجموعة من الشابات والشبان في الكورة أن يكسروا هذا المنطق الاستقوائي غير الخاضع لأي رقيب عبر نقل روح الثورة من الشارع حيث شعارات التغيير ومحاربة الفساد والمُفسدين إلى ابتداع حلول "الصمود" إذا صح التعبير. أي صمود؟ الحياة في وجه كُل المتآمرين على الناس، من رأس الهرم إلى أصغر تاجر في أصغر شارع على امتداد 10452 كلم مربع.

الغريب المنبوذ
وعلاء فرحات، ليس ابن الكورة فعلياً، فهو المولود في قضاء النبطية، لوالدة من الروم الأرثوذكس ووالد شيعي  اضطر إلى الانتقال في زمن الحرب الأهلية وبسبب انتمائه الحزبي إلى الكورة، وتحديدا إلى بلدة تعبورة. الشاب المعروف في منطقته بمجهوده المدني، لم يكن موضع ترحيب في الكثير من الأحيان، فهو "الغريب عن المنطقة" بنظر الكثيرين هناك. كان في كل مرة يُقرر أن يقوم بعمل ما يواجه بالتنمر والاضطهاد. يروي ما كان يحصل معه عندما كان صغيراً من نبذ المجتمع له. المجتمع الذي لم يكن قد خرج من تبعات الاقتتال الأهلي.

 في أوّل أيام الثورة، ترك علاء القرية قاصدا بيروت ليكون جزءاً من ناس يطالبون بالحياة. بعد فترة قصيرة، قرر أن يكون فاعلاً. هي فرصة العمل المجتمعي. فرصة العودة إلى الكورة من الباب العريض، من باب مشاركة الناس في تغيير مسار الأمور وتحويل الروح الثورية من تظاهر ومطالب، إلى أفعال تُساهم في صمود الناس أولاً، وفي مواجهة احتكار التجار وقبضهم على مصائر أناس غير قادرين على الوقوف وحيدين في وجه الحيتان الكثيرة، التي تحيط بهم من كل حدب وصوب. عاد علاء ومعه مجموعة من الشباب الكورانيين ليزرعوا بأيديهم ما كانوا يشترونه من التاجر بسعر غير منطقي في الكثير من الأحيان.

المغتربون يساعدون
أطلق علاء فرحات مع رفاقه حملة لزراعة الأرض في محاولة لتأمين اكتفاء غذائي نسبي في منطقة القويطع. هو الذي كان يعاني من النبذ، صار اليوم محور منطقته والشخص الذي بادر ومشى خلفه غالبية سكان المنطقة. يقول: في اليوم الأول من إطلاق الحملة بدأت الاتصالات تأتينا من كل حدب وصوب. كُثر قدموا لنا أرضهم لنهتم بها ونزرعها ونستفيد من محصولها. مغتربون بدأوا يُرسلون الأموال لتغطية مصاريف عملية الاهتمام بالأرض، آخرون تبرعوا بشراء البذور. البقية، رفعوا سواعدهم وبدأوا يحرثون الأرض. نحن اليوم نزرع القمح لأنه الموسم الوحيد الآن. نزرع اليوم وسنحصد بحزيران وسنبيع بسعر يناسب مدخول المواطن الكوراني ويُلغي الاحتكار البشع الذي يمارسه التجار في كثير من الأحيان.

من زقزوق وصولاً إلى حامات، بلدات تستعد ليدخلها هؤلاء الشبان حاملين معهم بذور الحياة. سيزرعون في كل مكان يستطيعون الوصول إليه. حماستهم كبيرة وهذا ما يبدو واضحاً على محياهم. يتحدث علاء عن اندفاعة الناس. يقول: لم أكن أتوقع أن يكون رد الفعل هكذا. أهالي الكورة "بيكبروا القلب". في كل ساعة هناك من يتصل ليعرض مساعدته، منهم من يعرض المال، ومنهم من يضع معداته في خدمتنا. وآخرون يعرضون سواعدهم لتحرث وتزرع وتحصد. يضيف: الناس يئست من الأحزاب ومن الوعود التي تُطلق في الهواء. الناس فقدت إيمانها بالدولة وبقدرتها على الوقوف بجنبهم، أو تقدمة الحد الأدنى المطلوب كي يستمروا. لهذا كانت هذه الفورة والحماسة، أضف إلى ذلك وبشكل أساسي، الروح التغييرية والأمل الذي زرعته الثورة في النفوس، وهو ما تحول ليكون حجر الأساس في هذا المشروع التنموي الذي سيكبر أكثر وأكثر.

مجلس إنماء
ولكن كيف سيدير علاء كل هذا، خاصة إذا كبر مشروعه وتوسع وهو على ما يبدو حاصلاً بشتى الأحوال؟ يجيب: بدأنا العمل على إنشاء مجلس إنماء القويطع، وهو يجمع الكثير من البلدات في الكورة، مهمته إدارة كل هذه العمليات وتأمين الشفافية المطلوبة أمام أهلنا في الكورة. ويضيف: اليوم نحن نزرع الحبوب، ولكننا لن نتوقف فقط عند هذا الحد. قريباً سنُطلق مبادرات مختلفة، تشمل الأمور الطبية على وجه التحديد، إضافة إلى مبادرات مجتمعية تسهم في تعزيز روح التعاون الجماعي، وتقديم صورة مصغرة عن المجتمع الذي نطمح إليه، والذي من أجله نزلنا وتظاهرنا وطالبنا بالتغيير منذ 17 تشرين ولا نزال وسنستمر.

الفتى والرئيس
أمبي (أنفة) أميا (أميون) مغدالو (القويطع) شيغاتا (حامات). هكذا كانت الكورة أيّام الرومان. الكورة التي كانت تزرع وتستقبل محصول القمح من باقي المناطق، لتُطحن في مطاحن الرومان الشهيرة قرب نهر الجوز. ما يحصل اليوم ليس عودة إلى الماضي، أكثر منه تذكير بأن باستطاعة الناس أن تبتدع الحلول وتُقدم نموذجاً لما يريده المنتفضون من دولتهم. من حق هؤلاء على دولتهم. فتى في عامه الثامن والعشرون، يُبادر، فيجتمع الناس من حوله، فيما لا يزال رئيس البلاد، عاجزاً عن المبادرة ولا يجتمع حوله سوى قلة من المستفيدين.

علاء فرحات ورفاقه في كل يوم يسمعون عبارة "روحوا الله يوفقكم". هم، نموذج عما أنتجته وستُنتجه ثورة 17 تشرين. أول الغيث زراعة. غداً سنسمع الكثير من القصص والمبادرات، التي تؤسس لمجتمع جديد، ولزمن جديد، آت لا محالة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024