الحمرا والمصارف: أحفاد علي شعيب و"ثوار" ما بعد الحداثة

محمد أبي سمرا

الخميس 2020/01/16

ليلة المصارف في شارع الحمراء ببيروت الثلاثاء 14 كانون الثاني الحالي، تنضح بالرموز. بل هي رمزية كلها، وتبعث فصولاً دونكيشوتية، كئيبة وهاذية، من تاريخ لبنان وبيروت منذ ستينات سويسرا الشرق الأسطورية وحتى اليوم.

مسحورو "الممانعة"
فعلى جدار وزارة السياحة قبالة مصرف لبنان في مدخل شارع الحمراء - وما أدراك ما السياحة والمصارف وشارع الحمراء في لبنان وتاريخه الحديث! - كتب في تلك الليلة العصماء متظاهرٌ من متظاهري يساريّي مرتزقة "الممانعة" المسحورة بحزب سلاح جيش حسن نصرالله السري وأحقاده، اسم علي شعيب باللون الأحمر، من دون أن يضيف إلى الأسم أي كلمة أخرى.

وأنا من كان الإسم منسيّاً في ذاكرتي، ولم أتوقع أن أبصره  بين المدونات الفوضوية والشتائمية الهاذية التي خلّفتها تلك الليلة على جدران شارع الحمراء، أيقظ اسم علي شعيب في وعيي ومخيلتي متاهة من الحوادث القديمة وغابة رموزها التي تحفّ كلها بأمثال اسم ذلك "الشهيد" العامي الشيعي اليساري المتطرف في مطالع سبعينات القرن العشرين، والذي يمكن أن يكون كاتب اسمه من أحفاده اليوم.

فعلي شعيب رمز "أهل الجنوب حفاة المدن" الشعري، الذي غنّاه أحدهم بصوته الطفليّ العذريّ قائلاً إننا - أي نحن رفاقك اليساريين - "سنغرس سِكَكَ محاريثنا في صدورهم"، ثأراً لك. والصدور تلك هي صدور أرباب الرأسمالية المصرفية والإمبريالية. وذلك عندما كان شارع الحمراء مدار تهاويم أمثال علي شعيب الطبقية وأحقادهم المستلة من كلمات ومحفوظات مدرسيّة فقيرة. وهي تهاويم وأحقاد تختلط بشهواتهم وأحلامهم المقموعة المستحيلة، الخلبيّة والملتهبة، قبل مقتل علي شعيب في غارته الثورية القاتلة على بنك أوف أميركا في شارع المصارف المتفرع من ساحة رياض الصلح ببيروت، في خريف العام 1973، أثناء حرب تشرين "المجيدة" أو حرب عبور الجيش المصري قناة السويس. ومذّاك لا يزال ذلك المركّب، الاجتماعي الطبقي والنفسي العاطفي، يتناسل متعرجاً حتى اليوم.

براءة سلاطين الخواء
ومن غرائب مصادفات ومفارقات لبنان أن شارع المصارف إياه اليوم يقع داخل المحمية الخاوية لأحد سلاطين "الممانعة" الشيعية، المسحور بالإنشاء اللفظي، العاطفي السيّال، والجبراني المشوّه، لتلامذة صفوف شهادة السرتيفيكا. وهو وريث أحد أجنحة "نضال" أهل الضعف الشيعة ضد الإقطاع والرأسمالية وأميركا في لبنان. وهو من بنى صروحاً مدرسية لأبناء قرى وبلدات الجنوب، كي تغتني غنىً فاحشاً من إتاوات مال خزينة الدولة، عصبةٌ من مواليه الخلّص. وما همّ أن تظل تلك الصروح خاوية مثل سلطانه في محميته الخاوية. وزمر فتوات الشوارع الجدد، من مقدسي اسمه ورافعيه إلى مصاف النبوة في الأحياء الشيعية، كانوا بين من أغاروا على مصارف الحمراء في الليلة الفائته. وذلك ثأراً من صلف سلطان محميّة مسيحيّة جديدة يريد أن يحرمه بعضاً من مناصب مواليه في حكومة لبنان العتيدة.

ومن أهداف تلك الغارة الليلية تصوير انتفاضة 17 تشرين بموجاتها المتردّدة المتلاحقة، على أنها انتفاضة "الممانعة" بأجنحتها كافة على سلاطين رأسمالية المصارف والمال والإمبريالية، وليست على سلاطين محميات أقطاب الغرضيات والعداوات الأهلية الحزبية والطائفية المتأرِّثة في لبنان منذ بدايات حروبه الملبننة (1975 – 1990) وحتى اليوم.

وها هو نائب من موالي المحميّة الشيعيّة يعلن قائلاً: "إذا بقي الوضع على ما هو عليه، ستبدأ الثورة من جديد وسنكون أهم روادها". ومثال ثورته الناصع هو ليلة المصارف في شارع الحمراء. وتلك صحيفة مرتزقة "الممانعة" تضع على صدر صفحتها الأولى عبارة: "مع السلامة ... رياض" سلامة. أي سعادة حاكم مصرف لبنان الذي تريد الصحيفة أن تجعله رمز سلطان المصارف والرأسمالية والإمبريالية، المسؤولة وحدها عن انهيار لبنان، من دون سائر السلاطين الأبرار.

براءة المهجّنين
أما انتفاضة 17 تشرين فتضم وتجمع ما لا يجتمع إلا في لبنان: فتيان زمر المحميات الأهلية من أهل الضعف والهوان والأميّة والتهميش، وصولاً إلى المتماهين مع  منتفضي مثقفي ما بعد الحداثة في وول ستريت بنيويورك.

فيا لبراءة "ثوار" هذه "الثورة" من أمثال الكسندر بوليكفيتش، راقص ما بعد الحداثة الهجين الأصل والمنبت واللسان، الذي اعتُقل في مساء تلك الليلة أمام مصرف لبنان، ونُشرت له صورة استعراضية راقصة، ويراقص فيها علم لبنان، كأنه لا يزال على سابق عهده من النضارة والبهاء الخلّبيين في سويسرا الشرق.     

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024