جميلة درويش صانعة الكمامات مجاناً: إمرأة واحدة لإنقاذ الفقراء

جنى الدهيبي

الإثنين 2020/04/20

تصوير وفيديو: نذير حلواني

داخل واحدٍ من أزقة شارع الراهبات – ضهر المغر، تجلس جميلة أحمد درويش في محلّها أمام ماكينة الخياطة، تعمل بهدوءٍ وصمتٍ في صناعة الكمامات البيضاء، وتساعدها فتاة عشرينية في الترتيب والتوضيب. هذا الشارع الشعبي الواقع في منطقة القبّة - وقد أُطلق عليه اسم "الراهبات" نظرًا لضمّه عددًا من الكنائس القديمة - يبدو منفصلًا عن حالة التعبئة العامة وحظر التجول ليلًا، كما الحال في مختلف أحياء طرابلس الشعبية، التي تجد في الفقر خطرًا أشدّ من فيروس "كورونا".


لكنّ جميلة المعروفة بـ "أم جهاد"، وهي البالغة 65 عامًا، لم تستسلم لعدم مبالاة أبناء حارتها بالفيروس، فبادرت إلى صناعة الكمامات من موادٍ خامٍ في معملها الصغير، ووزّعت في أوّل دفعةٍ نحو 300 كمامة على جيرانها مجانًا. تعرف جميلة صاحبة الوجه السموح الذي تلفّه بمنديلٍ أبيض، أنّ عدم إلتزام أبناء منطقتها بالتدابير الوقائية من الفيروس، لا ينبع من جهلٍ أو استهتار أو انعدامٍ للمسؤولية المجتمعية، وإنّما هو نتيجة عجزهم عن تسديد فاتورة هذا الإلتزام. فمن منهم يملك ترف شراء الكمامات له ولأفراد عائلته يوميًا بـ 2000 أو 3000 ليرة للواحدة، فيما هم بالكاد يدبّرون ثمن ربطة الخبز؟

عند أم جهاد
نتجه نزولًا إلى معمل أم جهاد، نجدها منهمكةً بعملها وراء ماكينة الخياطة، تجلس ملتصقةً أمامها كما لو أنّها مكتبها الخاص، تحني رأسها لتدقق بأصغر تفصيلٍ في كلّ كمامةٍ وهي تمررها تحت أمشاط التطريز. جميلة الشغوفة بعملها، وهو ما يبدو جليًا بالقمصان والفساتين والعباءات المعلقة حولها، والتي تقوم بتصليحها وتخييطها، تروي لـ"المدن" عن مبادرتها في صناعة الكمامات. قالت: "كان أهالي الحارة يشتكون من عدم قدرتهم على شراء الكمامات التي يصل سعر بعضها لـ 5000 ليرة لبنانية، بينما كنت أعرف أنها في الحقيقة لا تكلّف شيئًا".

كان لدى جميلة أقمشة متبقية من نوع الفازلين الصحية، صنعت نحو 300 قطعة ووزعتها على جيرانها، وهي حاليًا في صدد إنجاز طلبية جرى توصيتها عليها. قررت جميلة أن تبيع سعر الكمامة الواحدة لدى طلبيات الجملة، بـ 750 ليرة فقط، حتى تعطي هامشًا لصاحب الطلبية أن لا يبيعها بما يتجاوز 1500 ليرة. تابعت: "هذا ما يخصّ طلبات الجملة، أمّا الجيران، ومن يأتي إليّ طالبًا كمامة، فأعطيه مجانًا له ولعائلته، وبدل الواحدة 5 كمامات".

تمقت أم جهاد استغلال التجار لهلع الناس وحاجاتهم، فيضعون تسعيرات جنونية عند ارتفاع الطلب على أيّ سلعة، بقيمة لا تعكس واقع كلفتها. لذا، تشعر بغبطةٍ كبيرة وهي ترى إقبال جيرانها على طلب الكمامات منها. تسمع أخبارًا حول العالم عن "حرب الكمامات" فتستغرب، لأنّها تعرف أنّ صناعتها بطرق بدائية متاحة أمام الجميع. وعن زمن الاعتماد على النفس تأمينًا للاكتفاء الذاتي، قالت: "في هذه الأزمة الصحية والاقتصادية، كلّ أمّ بامكانها أن تصنع الكمامات لعائلاتها من أيّ قماشة لديها، وأن توفر سعر الكمامات لتأمين الخبز والقوت اليومي". لأنه، وفق تعبيرها، "مش كلّ الناس خلقت بتمها ملعقة من ذهب".

حياة جميلة
جميلة وهي أمّ لثمانية أولاد، أنجبت بكرها البالغ 50 عامًا عندما كانت في الخامسة عشر من عمرها. توفي زوجها قبل 14 عامًا، وتعيش في بيتٍ استأجرته في حيّ الراهبات مع ولدٍ لها من ذوي الاحتياجات الخاصة. اختبرت هذه المرأة الصلبة كلّ الأزمات، وعاشت معارك جبل محسن وباب التبانة، ورغم ذلك لم تيأس لشدّة تفاؤلها وسعة أملها. العام الماضي، فازت في برنامج "تطوير المؤسسات"، وهو واحد من البرامج والخدمات التي تقدمها جمعية SHIFT في مناطق القبة وجبل محسن وباب التبانة بشكل خاص، بهدف دعم المؤسسات الصغيرة من خلال التدريبات والإرشادات والتوجيه وتقديم المنح العينية، بدعم وتمويل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولة (USAID). وعلى إثر ذلك، حصلت أم جهاد على 5 ماكينات للخياطة، فاستطاعت أن تعيد تشغيل معملها الصغير، الذي ورثت إيجاره القديم عن زوجها بكلفة مليون ليرة سنويًا. تشعر بإمتنانٍ كبيرٍ في حياتها، وتشكر على الدوام كلّ من ساعدها، وتعتبر أنّها كلّما وهبت ألفًا تعود إليها 10 آلاف.

تتحمس جميلة لصناعة الكمامات، ولا تمانع أن توسّع نطاق عملها لتوزع منها حتى على الصيدليات، من أجل بيعها بكلفةٍ بسيطة تشجيعًا للمواطنين، لا سيما في المناطق الشعبية، بدل الاستمرار في لومهم وتحميلهم مسؤولية عدم الإلتزام بالتدابير الوقائية. وأمّ جهاد الذي سبق أن دربت نحو 10 فتيات من جبل محسن على عمل الخياطة، تتوجه للسيدات أقرانها قائلةً: "لا يوجد سنّ يأس للمرأة، وكلّ واحدةٍ منّا عليها أن تبقى متفائلةً وتجدد حياتها وتعتمد على نفسها ما دامت على قيد الحياة".

أمّا عن "كورونا" الذي لا تخشاه جميلة، فتقول عفويًا بتسامحٍ قد تُحسد عليه: "ما رح يصير شي، ورح يقطع، لأنّ الله لن يتركنا".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024