محو "دولتي فعلت هذا".. جريمة إضافية

نادر فوز

الجمعة 2021/04/09
إعادة طلاء الحائط عند جسر شارل حول قبالة مرفأ بيروت، فعل سلطوي. قد يعتبر البعض هذا التوصيف تخويناً وذمّاً وتشهيراً، فليكن، فالفعل وقع، تماماً كالجريمة ومحاولة محوها ومحو مسؤولية مرتكبيها.

"دولتي فعلت هذا". من يقدم على محو عبارة مماثلة تختصر مجزرة 4 آب؟ المتضرّر منها والمعني بها والمتّهم فيها، الدولة. إلا أنّ الدولة أتاها فرد أو شخص أو جهة ليرتكب الفعل نيابة عنها، فسهّلت للفاعل الأمر. منحته الدولة إذناً، فطلى حائط المرفأ بلون أبيض. أما الحُجّة فشائنة أكثر: نشر رسائل السلام واللاعنف والتعافي. كان المطلوب إقامة تجمّع لبعض من أهالي ضحايا مذبحة المرفأ وفنانين يقومون بالرسم على الحائط وكتابة عبارات ومواقف تخليداً لهذه المأساة وذكراها. وهذا المشروع لم يمرّ. "دولتي فعلت هذا"، كُتبت من جديد على الحائط، وأضيف إليها "ما فيكن تمحوا إجرامكن".

كارلا كرم
كارلا كرم، تعرّف عن نفسها أيضاً باسم جومانة كرم على مواقع التواصل الاجتماعي، مسؤولة عن طلاء الحائط. أطلّت في برنامج تلفزيوني مساء الخميس، وعادت وكتبت منشوراً توضح فيه موقفها من كل العملية. اعتبرت أنّ إعادة كتابة العبارة حقّق هدفها في التعبير من خلال الفن والتواصل غير العنفي. فعبّرت عن سعادتها جراء الردّ، معلنةً انتصاراً لها! باسم الفن والسلام واللاعنف، تغفل أنها حاولت مصادرة رأي من خطّ العبارة، يوم كتبها على الحائط بعد أيام من 4 آب. تغفل أنّ هذه العبارة وغيرها، كتبها مواطنون وبشر متضرّرون من الجريمة. تغفل أنها قامت بفعل سلطوي بامتياز، فائدته متبادلة بينها وبين من في السلطة. تقول إنها أخذت إذناً من بلدية بيروت لإعادة طلاء الحائط وتنفيذ المشروع. فجاء طلبها، على قياس مبتغى البلدية وما تمثّله من مكوّنات سياسية وسلطة. من جهة توفّر البلدية كلفة الطلاء، ومن جهة أخرى تمحو أي أثر للناس وآرائها.

تقرّ بالخطأ
في اتصال مع "المدن" تعرب كارلا كرم عن أسفها لكل ما حصل على حائط المرفأ. "ما قصدي، لو كنت منتبهة بأنّ كل هذا سيفسّر على هذا النحو، لما كنت تصرّفت هكذا. لكنت ترجمت المشروع في مكان آخر قريب من المرفأ". تقول إنّ هدفها "أن يأتي الناس للتعبير، وقد تواصلت مع أهالي شهداء فوج الإطفاء وأهالي الضحايا الآخرين لتنفيذ وقفة يوم 4 حزيران للرسم والتعبير على الحائط". تقرّ بالخطأ وتؤكد أنها اجتمعت اليوم مع عدد من أهالي الضحايا ومع ناشطين أعادوا خطّ العبارات على الحائط. فأوضحت لهم كل هذا.

طمس الحقيقة
خلدون جابر، الناشط الذي أعاد كتابة العبارة على الحائط الذي بيّضته كرم، يقول لـ"المدن" إنه تواصل مع كرم و"تناقشنا.. واكتشفت أنّ ثمة أموراً كثيرة تجمعنا. لكن مهما كان المشروع المنوي تنفيذه، فهذا لا يخفّف من قيمة "دولتي فعلت هذا" ولا من وقع الجريمة ولا من واقع المجزرة". المطلوب محو هذه العبارة. يشير جابر إلى أنه "يُراد طمس الحقيقة، وطمس المحاسبة، مجزرة المرفأ لا يتحمّل مسؤوليتها إلا الدولة، من رأس هرمها إلى أسفله كانوا يدرون بأطنان نيترات الأمونيوم المكدّسة ولم يحرّكوا ساكناً. لن ننسى، لن نسامح". وفي الوقت نفسه، يؤكد عدد من أهالي ضحايا جريمة المرفأ أنّ كرم لم تتواصل مع لجنة أهالي الضحايا التي تتحرّك كل شهر للمطالبة بالمحاسبة والعدالة. لا يخفي هؤلاء توجّسهم من حركة كرم.

بلاهة وخبث
تسرّ كرم لعدد ممن تناقشوا معها اليوم بأنه "لا يمكن التعميم واتّهام كل الدولة في ارتكاب الجريمة، وشدّدت على العمال الذي طلوا الحائط، بضرورة تسميك الدهان فوق العبارة المكتوبة". ولا يسع من استمع إليها تقول هذا الأمر سوى تفسيره بين حدّي البلاهة المطلقة أو الخبث السلطوي المطلق. وحديّ البلاهة والخبث يحكمان أيضاً كل خطابها الداعي إلى السلام واللاعنف (بصيغته المشوّهة المطروحة) والتعافي. حدّان يجدّدان طرح إشكالية علاقة الفن بالمأساة، على مقربة من مئات الأرواح التي سقطت وتناثرت أشلاؤها في المكان. ثمة من فجّر بيروت، يقابله داعٍ للسلام. ثمة من قتل أكثر من 200 شخص، يقابله خطاب لاعنفي أشبه بخطاب الإغفال والتناسي وتجهيل الفعل والفاعل. ثمة من خسر حياةً أو عملاً أو بيتاً أو يداً أو رجلاً أو عيناً، مطلوب منه التعافي. والمحاسبة والعدالة غائبان كبيران عن هذا الخطاب.

كارلا كرم، ببلاهة مطلقة أو بخبث مطلق، نجحت في لفت الأنظار إليها. وليس هناك من شهرة سيئّة. والتوجّه لا يمكن إلا أن يكون سوى لمموّليها، من جمعيات مدنية ربما لم تعلم بما كانت هي مقدمة عليه. المطلوب وقف هذا المشروع، ببلاهته وخبثه، لا لشيء سوى لأنّ "دولتي فعلت ذلك" ولن تقدر على محو إجرامها. يوماً ما، بعد عمر مديد، عندما نقابل سياسياً من القتلة والفاسدين في شوارع بيروت، سنرسم على وجهه زهرة صفراء. علّها تجمّله وتساعدنا على التعافي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024