"الجامعة اللبنانية" المأزومة.. معسكر حزبي متزمت

يارا نحلة

الخميس 2020/09/10

إن كانت الجامعة اللبنانية نموذجاً مصغراً عن الوطن، فهي بالتالي رديفاً للواقع المأزوم والمتهاوي. إلا أن إدارة هذه الجامعة لم ترَ من أزماتها سوى تزايد الأضواء المسلّطة على إخفاقاتها ومكامن فشلها، خصوصاً عبر "السوشال ميديا"، وذلك لأسباب متعددّة، منها تعاظم هذا الفشل من الناحية الاقتصادية والتعليمية، بالإضافة إلى حالة الانهيار العام التي طالت الجامعة، بل وجعلتها الوجهة الأساسية لمعظم الطلاب اللبنانيين، الذين فقدوا قدرتهم على الانتساب إلى جامعات خاصة. وأخيراً، حالة الثورة التي أرست سقفاً جديداً للانتقاد وإعلاء الصوت، سقف لم يحلو لرئيس الجامعة.

العبث بالمناهج
مع ازدياد وتيرة انتقاد الجامعة اللبنانية، كنتيجة مباشرة لقراراتها الاعتباطية، أتحفنا رئيس الجامعة فؤاد أيوب بقرار جديد يقضي بكمّ الأفواه المنتقدة والممتعضة، عبر إجبار الطلاب المسجلين على توقيع تعهد بعدم التعرض للجامعة على مواقع التواصل الاجتماعي و"الإساءة لسمعتها" أو "بث شائعات عنها". يأتي هذا التعميم في ظلّ انعدام وسائل أخرى للتعبير والمعارضة ضمن الجامعة، مع مصادرة الحياة الطلابية على يد الأحزاب، وغياب الانتخابات والهيئات الطلابية غير الحزبية. يرمي هذا القرار إذاً إلى سلب الطلاب هامش الحرية الضيق المتبقي لهم. وبدلاً من توجه إدارة الجامعة إلى حلّ المشاكل البنيوية التي تعاني منها، سلكت الطريق المعاكس المتمثّل بالتعتيم على هذه القضايا.

وفي صلب أزمات الجامعة، تكمن قضية المناهج القديمة وغير المحدّثة، منذ القرن الماضي، لمجاراة التقدّم في كل المجالات العلمية. وتعدّ هذه المسألة أزمة مزدوجة تندرج ضمنها مشكلة الكادر التعليمي، الذي تنقصه الكفاءة والانفتاح، فيعبث بالمناهج ويحرّفها على كيفه. لا مناهج أو كتب موحّدة تدرَس في كافة الأفرع أو حتى السنوات التعليمية، وما يستقيه الطالب من معرفة يتوقف على أهواء الأساتذة وميولهم النظرية، فهم من يكتبون منهج المادّة وهم من يرسمون خريطة الطريق التي على الطالب سلكها، بكل حذافيرها، من أجل النجاح في المادة، وإن كانت هذه الخريطة تتعارض وكثير من المصادر والتيارات العلمية.

تزمّت وتعصّب
قد لا تكون عواقب هذا "الإنفلات" الأكاديمي وخيمة في الأفرع العلمية المقيّدة بحقائق نظرية ثابتة، إلى حدّ ما، ومدّعمة بالأدلة التجريبية. إلا أن الأمر في الاختصاصات الإنسانية والأدبية أشبه بالـ"مزرعة" الفكرية. في ضوء تعدد التيارات النظرية في المجالات الفلسفية والاجتماعية وعلوم النفس، ينتقي منها الأساتذة ما يناسبهم فيما يهملون تدريس وجهات النظر الأخرى. ففي قسم الفلسفة مثلاً، أستاذ ينقد فكر ماركس المادي بحجة عدم مطابقته للفكر الإسلامي ولما جاء في القرآن. في الفرع نفسه "دكتور" آخر متعصّب لأحد المذاهب ومنكر للتيارات الفلسفية الأخرى، "التي تروج للكفر والإلحاد"، على نحوٍ يفرض على الطلاب الالتزام بهذا الإنكار من أجل النجاح في المادة.

أما في قسم علم النفس، فالمناهج مستمدّة من عهد تأسيس هذا العلم، فيما تُهمَل تحديثاته وتنويعاته. "المثلية الجنسية" ما زالت تندرج في المناهج ضمن خانة "الشذوذ" و"الانحراف". كما يدرّس بعض الأساتذة "علاج التحويل" القاضي بـ"شفاء المرضى" من المثلية الجنسية، وهي ممارسة غير متجذّرة في العلم بل في الأصولية المسيحية، وقد تمّ نبذها من معظم التيارات العلمية والسيكولوجية المعاصرة. في مادة أخرى، أستاذ يطرح الدين بوصفه طريقة علاجية، متحدثاً عن إنحلال روابط الأسرة الغربية ولاأخلاقيتها بسبب ابتعادها عن الدين. أما التحليل العلمي للديناميات الجندرية ومفاهيم الجنسانية فقد دفعت إحدى الأستاذات إلى الإعلان بأن "أنوثة المرأة لا تكتمل دون إنجابها أطفال"، وذلك ليس في معرض التفسير الاجتماعي للأدوار الجندرية، وما ينتج عنها من حالات ورغبات نفسية مرتبطة بالزواج والإنجاب، بل كحقيقة علمية ودينية ثابتة خارجة عن السياقات الاجتماعية والثقافية.

التعليم الفاشي
صفوف الجامعة اللبنانية لا تفتقد فقط للظروف المادية المريحة، كالتدفئة والتبريد والحواسيب والأجهزة الاكترونية وأحياناً الإضاءة الكهربائية، بل إنها محرومة من جوهر التجربة الجامعية المتمثلة بالنقاش النقدي الحرّ والمفتوح. "أنت الدكتور أو أنا؟" هي واحدة من العبارات الشهيرة التي يردّدها الأساتذة رداً على تساؤلات الطلاب وطروحاتهم لمقاربات ومفاهيم ومصادر لا تتطابق مع "قناعات" الأستاذ. ولا يتوقف الأمر عند هذا التعليق الساخر بل قد يكلّف الطالب شهادته. إذ وإن تعنّت وأصرّ على تفريغ ما استمدّه من مصادر أخرى في الامتحان، فإنه قد لا يتخرّج أبداً.

إن إبتزاز الأساتذة للطلاب بدرجاتهم وشهادتهم من شأنه إنتاج أجيال متطابقة ومستنسخة من الطلاب والمهنيين والأكاديميين العاجزين عن التفكير النقدي، أو عن أي تفكير خارج التلقين. إن هذا التعليم الفاشي بطبيعته لا يفلح سوى بخلق أسراب من الببغاوات، التي تكرّر النهج الضيق نفسه، فيما تهمل عوالم شاسعة من المعرفة والتجربة، ليشكل كل جيل منهم حلقة في دورة الجهل والتخلّف العلمي المستمرين بقوة الواسطة والتسلّط الحزبي على ما يسمى بجامعة الوطن. هذا الإبتزاز ليس معنوياً فحسب، بل يتخذ جانباً اقتصادياً حين يلزم الأستاذ طلابه بكتابٍ من تأليفه، تعود أرباحه إليه، هذا على علمٍ أنه قد جرت العادة أن يسلّم الأساتذة "الكورات" لمكتبة الجامعة التي تقوم طبعها بثمنٍ زهيد. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن المكتبة تخضع هي الأخرى لسلطة الأحزاب الأكثر نفوذاً، التي تحتكر طباعة المواد التعليمية وكذلك طلبات التسجيل، وتحارب المكتبات الأخرى حتى الإغلاق.

كالجامعات السورية!
وعلى هامش هذه الفوضى التعليمية، تغزو صروح الجامعة مشاهد سياسية وطائفية فئوية تحوّلها تارةً إلى "حسينية" وتارةً أخرى إلى مسرح للعراضات الحزبية والعسكرية. وقد وصل الأمر بأحد الأحزاب إلى تعليق صور قاسم سليماني داخل الصفوف، من دون أي اعتبار للطلاب ذوي الخلفيات والتوجهات المغايرة، في محاولةٍ لإقصائهم عن الحياة الطلابية ككل.. ومن دون اعتبار أيضاً لتداعيات هذا التجييش على الاعتراف العالمي بشهادة الجامعة اللبنانية، حين يختلط العلم بالإرهاب والترهيب، ما قد يؤدي إلى خسارة الطلاب لشهاداتهم، إذا ما أرادوا مواصلة دراساتهم في الخارج، كما حصل لطلاب الجامعات السورية.

يحدث كلّ ذلك على مرأى من رئيس الجامعة الذي يختار الإشاحة بنظره عن هذه الممارسات، ليعاقب ضحاياها ممّن تجرأ على الرفض والنقد.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024