رسالة شكر تكشف:الأمن العام إستجاب لتعليمات رجال الدين!

المدن - مجتمع

الجمعة 2019/08/02
اليوم نكتشف أن الأمر ما عاد مجرد إلغاء حفل موسيقي لفرقة "مشروع ليلى". يبدو أننا أمام نظام جديد، رقابي ووصائي، سيُفرض على الحياة الثقافية والفنية في لبنان. نظام "تعاوني" تخضع فيه الأجهزة الأمنية لتعليمات وتوصيات سلطات دينية ليس معروفاً عنها سوى ريبتها الشديدة وضيقها بكل ما هو ثقافة وإبداع وفن وحرية تعبير. سلطات طائفية متزمتة وخانقة وزجرية، لا تطمئن إلا للامتثال الطقوسي وللتعصب والهوس الديني. سلطات "إيبوكريزية" أخلاقاً وخطاباً وممارسة.

فالشكر الذي تقدم به المطران بولس مطر والأب عبدو أبو كسم إلى مدير "الأمن العام"، اللواء عباس ابراهيم، يكشف أن ما حدث في مهرجانات جبيل نفذه جهاز أمني بناء على تعليمات مرجع ديني. هذا الأمر تحول سابقة مكرسة، تفتح شهية كل المراجع الدينية لتنسج على هذا المنوال. ولنا أن نتخيل أي حياة للمجتمع وللثقافة، وأي حريات فردية ستكون تحت وطأة سلطة قوامها أجهزة أمنية تنفذ تعليمات الأكليروس والفقهاء، المهووسين منذ ألفي عام بمطاردة الشياطين والساحرات والهراطقة والزنادقة والكفار والخطأة.. أي بمطاردتنا كبشر وعقول ومخيلة وأرواح خلّاقة وعواطف وضمائر.

تكريس هذا العرف، باسم الطهارة والقداسة والإيمان والحلال والحرام، وهو ليس أقل من ابتكار لـ"محاكم التفتيش" (القروسطية) أو لـ"مكاتب الحسبة" (الداعشية)، أو تحويل رجال الأمن إلى "مطاوعين".

ما يشي به هذا "الشكر" يدل على خضوع مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية لإملاءات اعتقادية و"أخلاقية" تتنافى مطلقاً مع ضمانات الدستور والقوانين التي تكفل للبنانيين حرية الضمير والمعتقد والتعبير.

يوم الجمعة، وجه رئيس اللجنة الأسقفية لوسائل الاعلام المطران بولس مطر ومدير المركز الكاثوليكي للإعلام الأب عبدو أبو كسم رسالة شكرهما إلى المدير العام للأمن العام، اللواء عباس ابراهيم، وجاء فيها: "باسم اللجنة الأسقفية الكاثوليكية لوسائل الإعلام، نتوجه من حضرتكم ومن المديرية العامة للأمن العام، بعاطفة الشكر والإمتنان لتعاونكم الدائم، والمثمر مع مركزنا الكاثوليكي للإعلام، وللدعوة التي صدرت منكم إلى احترام الرموز والمقدسات الدينية في لبنان، لا سيما من الذين يقومون في الاحتفالات العامة والمهرجانات التي تنظم دورياً في لبنان، وبخاصة في الحفلة التي كان مزمعاً تنظيمها في إطار مهرجانات بيبلوس الدولية. فكانت من قبلكم المعالجة الحكيمة للأمر، ما جعل مناسبة المسّ بالمقدسات تنتفي مع توقيف الحفل من قبل القيمين عليه.
وفيما نشير إلى الخطأ الجسيم الذي وقع فيه منظمو هذا المهرجان بقولهم إنهم أوقفوا حفلتهم منعاً لهدر الدماء، نؤكد حيالهم أن اللبنانيين جميعا يرفضون مثل هذا الوصف، ومثل هذا الإدعاء، لأنهم شعب حضاري ومسالم ومحب للثقافة، ومتمسك في الوقت عينه باحترام رموزه ومقدساته. ولا يسعنا في الختام إلا أن نكرر شكرنا لكم، سائلين الله أن يوفقكم في المهام الكبرى التي توكل إليكم من أجل السلام والوئام في وطننا العزيز لبنان، وأن يسكب عليكم فيضاً سخياً من نعمه وبركاته".

قراءة الرسالة تجعلنا نتوجس أن يستمرئ رجال الدين جميعهم هذا المكسب السلطوي الجديد الذي حصّلوه، فتكون لهم ابتداء من اليوم الوصاية على المهرجانات الفنية والبرامج التلفزيونية والأفلام السينمائية والإذاعات والصحف ومواقع الإنترنت والكتب والألبومات الموسيقية وكلمات الأغاني.. خصوصاً وأننا شهدنا في العقدين الأخيرين "مآثر" عديدة لقرارات المنع والرقابة بناء على "توصيات" المراجع الدينية.

وتحت شعار "المسّ بالمقدسات" - كما ورد في الرسالة - يصبح كل شيء قابلاً للشك وللرقابة وللمنع. وهو شعار يتحول سلاحاً للدمار الشامل حرفياً. التاريخ الإنساني يشهد كم أن هذا الشعار لا حد له وقابل للتوسع كطغيان ظلامي قاتل. بل إن عصور الأنوار والتقدم الإنساني وتحرر البشر كان كله مشروطاً بنقد "المقدس" وتفكيكه والتساؤل فيه وتقييده إلى أقصى حد. لولا "المسّ بالمقدسات" لكانت الأرض ما زالت مسطحة، ولكانت عقولنا وثقافتنا وفنوننا وعلومنا كلها مسطحة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024