طرابلس منكوبة بلا انفجار: كورونا ترف وقوارب الموت قدر

جنى الدهيبي

الجمعة 2020/10/09

كلّما توغلنا شمالًا في طرابلس القديمة، من ساحة التل إلى نهر أبو علي وأسواق الخضار وباب التبانة والملولة من جهة، ثمّ إلى ساحة النجمة وسوق العطارين نحو طلعة الرفاعية من جهة أخرى، نلحظ ازدحام الناس وتدافعهم وتلاصقهم، وكأن "كورونا" لا يتسلل بين البؤساء. ومن مفارقات هذا المشهد المألوف شمالًا، تكمن الغرابة بعابرٍ يرتدي كمامة أو يسعى لضمان مسافة آمنة للتباعد عن محيطه.

مشاهد مدينة  
بعد حواث كفتون وجبل البداوي ووادي خالد وحاجز عرمان، التي استشهد فيها 6 عسكريين، ما زال الهاجس شمالًا من إحياء سيناريوهات "الخلايا الإرهابية" لضرب أمن المنطقة وعلاقتها مع المؤسسة العسكرية. ومع ذلك، تبدو هموم الناس في مكان آخر.  

ففي أسواق الأغذية، يتدافع الناس حول عربات الخضار لشراء حاجياتهم، فينبشون البضائع "البايتة" للعثور على الأفضل منها، علّها تكون بسعر أقل من البضائع الطازجة. يمرّ طفل مع أمّه لشراء باقة من البقدونس، فيشير بإصبعه لعربة الخضار ويطلب منها: "بدي تفاح ودراق"، فتردّ عليه: "هيدا مش إلنا"، ثم تمسكه بيده وتمضي سريعًا. مشهد آخر أمام محل "هوا تشيكن" للدواجن في شارع نقابة الأطباء، يقف يوميًا مئات الطرابلسيين بالطابور، يتلاصقون خلف بعضهم البعض، للحصول على كرتونة بيض مدعومة توفّر عليه 5 آلاف ليرة لبنانية.  

وفي أحياء المدينة، التي يعيش سكانها فقرًا مدقعًا، يجلس شبابها العاطلون عن العمل في الباحات للعلب بورق الشدّة أو التسامر أو حتّى تبادل الشتائم، فيما يتأفف أرباب المنازل كلّما طلبت منهم زوجاتهم غرضًا، فيسألون بعضهم غاضبين: "من وين منجيب مصاري؟".  

في بعض أحياء القبة، ما زال حديث "قارب الموت" يشغل أبناءها، بعد أن خسر آل محمد نحو 6 أفراد ماتوا غرقًا بين شاطئ المنية وقبرص، فيما تجار البشر والمهربين لم ينالوا عقابهم بعد. أمّا بعض شباب الميناء وعائلاتها، فيتحضرون لخوض مغامرة الهرب بعرض البحر نحو قبرص وأوروبا، لمجرد أن تسمح لهم الفرصة بالهرب، رغم إجراءات الرقابة من السلطات القبرصية واللبنانية، لشدة يأسهم من البقاء في لبنان.  

كذبة "كورونا"؟  
رغم تجاوز أعداد المصابين بفيروس "كورونا" في طرابلس سقف الثلاثة آلاف إصابة، ثمّة اعتقاد شعبي لشريحة واسعة في المدينة، أن هذا الفيروس هو "كذبة" حتّى لو أصابهم. ومن يتخذ تدابير الوقاية من "كورونا" قد يتعرض للسخرية بسؤاله: "من عقلك مصدق كورونا؟". لكن، يبدو أن إنكار تفشي الفيروس، رغم بلوغه مرحلة الخطر المجتمعي، ينبع من عجز الفقراء عن حماية أنفسهم منه، سواء على مستوى شراء الكمامات والمعقمات، أو على مستوى تكبّد كلفة الـPCR، أو لجهة انعدام رفاهية الحجر في بيوتهم الصغيرة، وعدم القدرة على التوقف عن أشغالهم، التي يتقاضون أجورها الزهيدة يومًا بيوم.  

وكحال أقرانها في لبنان، تمرّ مستشفيات طرابلس بمرحلة دقيقة، بعد أن بلغ امتلاء الأسرّة ذروته. وفي السياق، يشير مدير مستشفى طرابلس الحكومي ناصر عدرة، أن هذا المستشفى يعيش ضغطًا يوميًا كبيرًا، والعمل جارٍ على توسيع أسرة العناية الفائقة من 9 أسرة إلى 21 سريرًا، بالإضافة إلى 32 سريرًا عاديًا جديدًا. كما بدأ تجهيز نحو 40 سريرًا في باحة المستشفى. ويجري المستشفى يومياً ما معدله 150 فحص PCR، وتظهر نسبة كبيرة من النتائج موجبة. قال عدرة لـ"المدن": "أكثر ما نحتاجه في طرابلس أن ترتفع مسؤولية الناس تجاه أنفسهم، لأن الوقاية لا تحتاج لأكثر من غسل اليدين بالماء والصابون، ووضع كمامة منزلية من القماش. أما استمرار الوضع الوبائي على هذه الوتيرة، فينذر بخطر كبير على أبواب انفلونزا الشتاء".
ويشكو عدرة من ارتفاع سعر صرف الدولار بشكل يومي، "ما يؤثر سلباً على آلية شراء المواد الاستهكلاية والغذائية للمستشفيات، وأدخلها في مأزق اقتصادي كبير".  

البلدية وجمعية التجار
من جهته، يشير رئيس بلدية طرابلس، رياض يمق، أن البلدية قامت مؤخرًا بالتعاون مع اليونيسف بتوزيع 50 ألف كمامة على المواطنين. ويرى يمق في حديث لـ"المدن" أن الوضع الاقتصادي في طرابلس ينهار نحو الأسوأ، تحديداً بعد انهيار الليرة وتداعيات انتشار الفيروس.  

سوء الوضع الاقتصادي، يؤكده بنماذج رقمية رئيس جمعية تجّار شارع عزمي طلال بارودي، لـ"المدن"، ويعطي قطاع الألبسة والأحذية مثالاً. فمنذ بداية الأزمة ما بعد 17 تشرين الأول 2019، أقفل ما لا يقل عن 60 محلًا تجاريًا ضمن نطاق شوارع عزمي ونديم الجسر وقاديشا. قال: "أغلق نحو 35% من محال هذه المنطقة، وهي نسبة مرشحة للتصاعد، وما بقي من محال تجارية تبدو شبه مغلقة، وأصحابها يعجزون عن شراء البضائع للموسم الجديد، نتيجة انهيار الليرة واحتجاز المصارف لأموال التجار، وعدم القدرة على الاستيراد". يحمّل بارودي المصارف مسؤولية انهيار القطاع التجاري في لبنان، لأن كل سبل التسهيلات أمام التجار انعدمت، و"انهيار المصارف يعني انهيار التجارة في بلد يعيش على الاستيراد".  

80 بالمئة فقراء 
من جهته، يصف عضو بلدية طرابلس، باسم بخاش، الأزمة في طرابلس بالمأسوية. ويشير إلى أنه قبل احتجاجات 17 تشرين الأول وانهيار الليرة وانتشار "كورونا"، كانت نسبة الفقر في طرابلس تتجاوز 60%. وبناء على معطياته، يعتبر أن هذه النسبة بلغت 80%. وثمة "فقراء جدد" في طرابلس، وترد للبلدية اتصالات لطلب المساعدة من عائلات كانت تعيش بمستوى لائق ماديًا في المدينة. لكنهم خسروا أعمالهم أو أقفلوا محلاتهم أو يتقاضون أقل من نصف راتب. وأكثر ما ينذر بالخطر في طرابلس، حسب بخاش، هو تداعي المستوى التعليمي وعجز غالبية أهالي المدينة من تأمين سبل التعليم عن بُعد لأبنائهم. قال لـ"المدن": "اجتمعنا في البلدية مؤخرًا بـ60 مدير ومديرة مدرسة رسمية مع اليونيسف و4 وزارات معنية في التعليم: التربية والثقافة والطاقة والاتصالات، فكانت الصرخة مدوية من مدراء المدارس نتيجة عدم استعدادهم مع الطلاب للعام الدراسي الحالي". خطورة هذا الأمر تربوياً وأكاديمياً والذي يترافق مع انهيار اقتصادي، ينبئ -وفق بخاش- بجيل كامل في طرابلس مهدد بالتسرب المدرسي والحرمان من التعلم.  

الأداء البلدي
لكن، هل البلدية تقوم بمسؤوليتها؟  

يشير بخاش أن بلدية طرابلس تشهد نزاعات حادة بين أعضائها. وكل اجتماع مقرر ينتهي بإشكال يصل أحيانا لدرجة تبادل الشتائم، من دون إنجاز كل البنود المقررة. أضاف: "بدل أن يكون الأداء البلدي على مستوى التحديات في المدينة، يلتهي بمشاكله بين الأعضاء ومع اتحاد بلديات الفيحاء، لأن ثمة أزمة متجذرة بانعدام روح العمل الجماعي".  

في المقابل، يشير الرئيس رياض يمق أن الخلافات موجودة داخل المجلس البلدي، والأزمة بينه وبين بعض الأعضاء أنهم يطلبون منه تمرير مخالفات لحساباتهم الشخصية، ولصالح علاقاتهم، فلا يوافق عليها، فيما تشكل اعتداءً واضحاً على الأملاك العامة، على حدّ قوله.    

تابع يمق: "مؤخرا صارت شرطة البلدية تغض النظر عن أصحاب العربات المتنقلة، كي لا نقطع أرزاق الناس في هذه الظروف الاقتصادية الاستثنائية. لكن ثم مخالفات كبيرة يطالب بعض الأعضاء بتمريرها، لا نستطيع الرضوخ لها، منعًا لتعميم ثقافة الاعتداء على الأملاك العامة والخاصة، والتي أوصلت البلاد إلى ما نحن عليه".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024