زيارة إلى متاهات السجل العدلي وقصر العدل

محمد أبي سمرا

الثلاثاء 2020/02/18
لكلِ مَن تجاوزَ الثامنة عشرة ربيعاً من سكان لبنان - واللبنانيون سكان في بلدهم، لعجزهم المديد عن أن يكونوا مواطنين - تجربته في مبنى السجل العدلي بفرن الشباك، التابع للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، التابعة بثكناتها ومخافرها المهملة لوزارة الداخلية التي يتبع لها أيضاً جهاز الأمن العام.

لكن هذا الجهاز أبى مديرُه العام السابق اللواء جميل السيد، بعدما آل إليه المنصب في عهد الإدارة السورية الأسدية لـ"الشعب الواحد في دولتي وحدة المسار والمصير"، أن يظلَّ مبنى محميّته مهملاً، فشيّد له صرحاً فرعونيَّ الطراز المعماري والإداري. ولا يزال اللواء الأسدي المقاوم يعتزّ بصرحه حتى الساعة، ويعتبره من إنجازاته الجبارة المجيدة، فيما هو يجلس مشرئب الرأس والعنق مثل صرحه الأمني، متقدماً صفوف أمثاله من عبدة خطيب الحرب التلفزيوني في إطلالاته من على شاشة عملاقة في مربعه الأمني بضاحية بيروت الجنوبية.

النساء رأسمالٌ جمالي
وتجارب سكان لبنان في المؤسسات والإدارات الحكومية، وخصوصاً الأمنية والقضائية منها، غالباً ما يَعفي الرجالُ منها النساءَ، كلما استطاعوا إلى ذلك وسيلةً أو سبيلاً، حرصاً منهم على شرفهم الذي تجسّده النساء، أمهاتٍ وأخواتٍ وزوجات، وصديقات في أحوال مستجدة محدثة.

لكن حركة 17 تشرين الأول 2019 الاحتجاجية، استخدمت "شرف النساء الذكوري" لحماية المتظاهرين الشبان من عنف رجال الأمن الذكوري، فقدّمت الشابات صفوفَ التظاهرات لتخجيل رجال جهاز مكافحة الشغب من التعرُّض للنساء "الغريبات" أو "الأجنبيات"، ما دام المَثل الحكيم في تقاليدنا يقول: "اذا لم تكن النساء نساءنا، فنحن لا نضرب النساء".

ومنذ خروجهم إلى الأزمنة الحديثة، أصبح نساءُ سكان لبنان زينة حياة رجالهم الدنيا، يتباهون بجمالهنَّ ودلالهنَّ، ويغدقون عليهنَّ أفخر الثياب والسيارات الرباعية الدفع، كمرآة لرفعةِ مكانتهم ومراتبهم وشأنهم في الخَلق. لذا صارت نساءُ لبنان مضرب مثل في الأناقة والشياكة والجمال، ورأسمالاً تجارياً في صناعة الأزياء وجراحة التجميل.

وهذا ما حتّم على رجال لبنان حمايةَ رأسمالهم النسائي الجمالي، فأخذوا يعفون النساء من التعرُّض لتجارب تخليص المعاملات في الدوائر والمؤسسات والإدارات الحكومية، وخصوصاً الأمنية منها، مثل دائرة السجل العدلي في فرن الشباك، وهو ثكنة لقوى الأمن الداخلي، على ما تقول لافتة على مدخلها.

دولة الأسد العميقة
نخصُّ هنا رواية وقائع زيارة لمبنى السجل العدلي، باعتبارها مثالاً لتجارب سكان لبنان المريرة في تخليص معاملاتهم من الدوائر الحكومية.

يطغى اغبرارٌ كالح ومقبّض على المشهد الخارجي لمبنى السجل العدلي - الثكنة. فما أن يتجاوز امرئٌ مدخل باحة البناء الخارجية، حتى يهجم على حواسه كلها شعور بالكآبة والانقباض، هو وليد تلك الطبقة الغبراء المزمنة التي تكسو البناء المشيّد على طراز معماري وظيفي محدث وفقير. الأرض الإسفلتية في الباحة لم يمسسها ماءٌ من سنين. كأنما الأمطار لا تهطل هنا لتزيل هذه الطبقة من السخام الأبدي السميك عن الإسفلت.

واللون الأغبر، أو الرمادي المائل إلى الرصاصي، هو لون الإهمال الحبيب الطاغي على مباني جهاز قوى الأمن الداخلي. وهذا شهادة على وظيفتها الأمنية التي تلازمها ذكورة فائضة، هي قرينة الإهمال والنظرة اللبنانية السائدة إلى المخافر ومقار قوى الأمن والجيش الذكورية المنفرة، ما دام يُفترضُ أن زائريها غالباً ما يكونون مهملين، أو من أهل الضعف والهوان، العراة من المكانة والمراتب المحترمة، ومن المقدرة على إيكال تخليص شؤونهم ومعاملاتهم فيها إلى صغار محاسبيهم وخدمهم.

لا شيء في البناء كله لم يُتركْ للتقادم، لانتهاء صلاحيته والاهتراء. فلا يُنظَّف أو تُزال عنه اللّطَخ المزمنة وطبقات الغبار المتحولة إلى كساءٍ صار من طبيعة المادة وأصلها المتحلل. فالنظافة في الدوائر الحكومية، وخصوصاً الأمنية، ليست من الإيمان. وهي ليست من شيمنا أصلاً، إلا في أماكننا وأملاكنا ومقتنياتنا الخاصة خصوصية قبلية وعائلية وشخصية. أما الأماكن والإدارات والشؤون العامة في ثقافتنا وتقاليدنا التي صارت جماهيرية، فمنذورة للإهمال والتحلل، للسلب والنهب المبارك، ولإذلالنا وقهرنا وعداوتنا وضغينتنا، إذا لم نكن من السّلّابين والنّهّابين المقنّعين بمكانتنا وعلو شأننا، ومن عليّة القوم المحميين بمناصبنا المرموقة.

والأشياء المتقادمة، التالفة والمهترئة في البناء، تُجانس حالَ العاملين فيه وزوارِه العراة من المراتب والمكانات. الصالة الأرضية التي يصطفُ فيها طالبو إفاداتٍ أو شهادات عن سجلهم العدلي، يبديها الإهمال المزمن، لُطُخَهُ والغبار على جدرانها الكالحة المتقشِّر طلاؤها، مثل مخفر على الحدود اللبنانية - السورية، وعاصرَ أزمنة الإهمال والفوضى في حروبنا الأهلية المديدة، ومرّت عليه أو عفّت عنه وأهملته، ما دام من موروثات "الدولة العميقة" العصية على الإصلاح وإعادة الإعمار، اللذين أوكلتهما سوريا الأسد لحَمَل الإعمار الوديع، واحتفظت لنفسها وأتباعها الخلَّص بالجيش والأمن ومقاومة إسرائيل والسياسة الخارجية.

كافكاوية مملوكيّة الجذر
طاولة مكتب رجال الأمن في بهو البناء الداخلي، صَدِئَ معدنها وتآكل، ولا تصلح إلا للتصدّق بها على شبانٍ ورجالٍ بلا عمل ومعدمين، يجوبون شوارع الأحياء الشعبية منادين سكانها ليبتاعوا منهم الخردة والأشياء التالفة في بيوتهم. والمصعد الكهربائي إلى طبقات البناء العليا، لا يزال يعمل على الرغم من اهترائه. وحاله كحال المصاعد في البنايات المؤجرة شققها وفق نظام الإيجارات الثابتة القديمة السابقة على عقد التسعينات الذي حُرّرت فيه عقود الإيجار الجديدة، وحاولت الحكومات المتعاقبة تحرير القديمة، ففشلت حتى الساعة في الوصول إلى قانون يضبط العلاقة بين الملاّك والمستأجرين، فتُركت لدبيب فوضى قانونية في المحاكم، شأن معظم القوانين والإجراءات الإدارية في المجالس الوزارية لحكومات ما بعد اتفاق الطائف، التي يختصم وزراؤها على حصص أسيادهم في مناصب الدولة ووظائفها وموازناتها المالية العامة.

ومن يدخل إلى مبنى السجل العدلي، محتفظاً في ذاكرته المجهدة بطيفٍ من مشاهدَ لا يُداخلها الإهمال والاهتراء والصدأ، عليه أن ينساها، ويسلّمَ نفسَهُ وحواسه وجسمه لمزيجٍ من المهانة والكآبة، وينفصلَ عن ماهيّته أو كينونته، ليصير من الخردة البشرية الزرية، ويكتم سخطه وغضبه من ذاته وازدرائها، وازدرائه المكان وسواه من الموجودين فيه.

والحق أن هذه المعادلة - أي شعور المرء بأنه خردة أو نفاية بشرية، وكتمانه ازدراء المكان ونفسه والأشياء والناس من حوله - تلازمُ كل داخل إلى إدارة عامة لبنانية لتخليص معاملة ما، مضطرٍ لتخليصها بنفسه، مدركاً أن مهمته عسيرة وقدرية، بل شبه كافكاوية في عبثيتها، قدر تخلّفها وتقادمها زمناً عن العبثية الكافكاوية الحديثة، وضربها جذورها في الزمن المملوكي، والعثماني في أحسن الأحوال.

والإدراك هذا قاهرٌ وممضٌ ولا جدوى منه، وعلى المرء دوسه كما يدوسُ روحه وذاتيته على مدخل البناء، قبل شروعه السيزيفي على جلجلة تخليص معاملته، وهي هنا وفي هذه الحال ورقة سجلٍ عدلي.

مكتب المؤهل الأول
وقالت موظفة في صالة الطبقة الأرضية من المبنى، لطالب الحصول على نسخةٍ من سجله العدلي، إنها سوف تصطحبه إلى الطبقة الرابعة. صعدا في المصعد المهترئ، وسلّمتْ الموظفةُ الرجلَ إلى من سمّته حضرة المؤهل الأول ("أجيدان شيف" في المصطلح الفرنسي) في مكتبه الذي يغصُّ بخردةٍ بشرية من طلبة الحصول على سجل عدلي.

وسرعان ما علم الرجلُ، صاحب هذه الشهادة، أنه محتجزٌ في انتظار حصول المؤهل الأول على ما يُسمّى "النشرة" من المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي. وذلك لبيان جرمٍ غامض اقترفه الرجلُ ويجهله ولا علم له به. وأدرك الرجل أن عليه أن يكون حليماً، ويصبر صبرَ جملٍ ظمآن في الربع الخالي.

فكر الرجل الحليم أن يجلس منتظراً دوره لمقابلة المؤهل الأول. لكنه عزف عن الجلوس، حائراً أين يقف في غرفة المكتب التي يعزُّ الوقوف في جنباتها المقبضة المنفّرة، شأن الكراسي المصطفة قرب جدار الغرفة، مخلّعةً كلها، مبقورة الجلد والإسفنج، وتكثر عليها اللّطخ. والوقوف الذي يبعث على الغثيان، دفع الرجلَ إلى خارج الغرفة. وما أن تحرك، وبدت عليه الحيرة والنفور المكتوم أو المغتَصب، حتى ناداه المؤهل الأول، وأمره بنبرته العسكرية المتعالية أن يجلس وينتظر. لم يجلس الرجل، وظل يكظم حيرته ونفوره، قبل أن يقول بصوته المرتجف غيظاً جفف كتمانه اللعاب في حنجرته، إنه سينتظر خارجاً في الممر بين غرف المكاتب.

لا، لا، أنت هنا في دائرة أمنية، اجلس حيث أقول لك، قال المؤهل الأول بصلافته الشامخة مثل نسر يتخيله واقفاً على شاربيه الكثيفين المفتولين المشرئبين من طرفهما إلى الأعلى، مثل "قمات جبال" سعيد عقل "السمر، مأوى النسور"، ومثل شعور المؤهل بعضلاته التي أخضعها مديداً لرياضة كمال الأجسام، على الرغم من كرش الوجاهة في وسطه. وهو يرتدي ثياباً مدنية، وتحت سترته تظهر أحزمة جلدية تزنّر جذعه، ويتدلى منها مسدّسه، على مثال رجال عصابات المافيا. وحول طاولة مكتبه المهترئة يتبختر مثل ديكٍ، ثم يجلس على كرسي خلف الطاولة التي عليها جهاز كمبيوتر قديم، قد يكون الوحيد في المبنى كله، ويتشارك في تشغيله مع مساعده الشاب. وقال المؤهل الأول ممازحاً الحاضرين في مكتبه إنه اختار هذا الشاب مساعداً له، بعدما هجم على متظاهر في تظاهرات 17 تشرين، شتم أمه في الشارع، فسحله وكاد يقتله.

في انتظاره ساعتين لوصول "النشرة" التي تبيّن جرمه الغامض، خرج الرجل مرات من غرفة مكتب المؤهل، متنزهاً في الممرات المقبّضة بين المكاتب، فصادفه الشاب مساعد المؤهل، فقال له متذمراً من سيده إياه: بعد 4 - 5 أشهر رح نخلص منه، لأنه سيتقاعد ويذهب إلى بيته. ثم أخفض الشاب صوته موشوشاً في شتيمة، كالتي قال المؤهل إن متظاهراً وجهها للشاب مساعده.

ووصلت "النشرة" التي أفادت أن الرجل محكوم غيابياً لمخالفة سير سطرتها به غيابياً فصيلة مخفر الرملة البيضاء في العام 2008.

متاهة قصر العدل
وكان على الرجل أن يتنقل ساعة ثالثة بين مكاتب مبنى السجل العدلي، لإجراء مسلسل إداري يمكّنه من الحصول على ورقةٍ يحملها إلى قصر العدل لتسوية وضعه في الحكم الغيابي الصادر في حقه، ودفع غرامة ضبط السير ومتأخراتها البالغة 200 ألف ليرة لبنانية.

لكن الملهاة السوداء لم تنته بحصوله على الورقة. لم يُسمح له بالخروج من مبنى السجل العدلي، لأنه في حكم الموقوف حتى دفعه الغرامة في قصر العدل والحصول منه على "براءة ذمة" من القاضي.

ما العمل إذاً؟ سأل الرجل. عليك أن تدفع تأميناً قدره 200 ألف ليرة، هنا في مبنى السجل العدلي، لئلا تهرب، فأنت موقوف هنا، قالوا له. كان في جيبه إلى الـ200 ألف ليرة، مئتي دولار أراد تركها لديهم تأميناً لذهابه إلى قصر العدل وعودته. لكن عناصر قوى الأمن قالوا له إنهم لا يقبلون سوى العملة اللبنانية.

وحين حاول الاتصال بأخيه ليقوم عنه بالمهمة في قصر العدل، قالوا له إن أخاه يحتاج إلى توكيل منه لدى الكاتب العدل، كي يقبل القاضي انجاز مهمته. أخيراً أشفق به رجل أمن، فسمح له بالذهاب إلى قصر العدل، لدفع قيمة ضبط السير ومتأخراته.

ومهانة الدخول إلى قصر العدل ومتاهاته، لا تقلُّ عن تلك التي تعرّض لها في مبنى السجل العدلي. أمضى الرجل ساعتين يتنقل من مكتب إلى آخر في القصر الكبير، وصولاً إلى صندوق دفع المتوجبات المالية.

وحصل أخيراً على ورقة "براءة ذمة" من ضبط السير وحكمه الغيابي. حمل الورقة عائداً إلى مبنى السجل العدلي، فاكتشف أن عليه الانتظار مجدداً ورود "النشرة" من المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، لتفيد أن قصر العدل أسقط عنه حكمه الغيابي.

والرجل الذي كان قد دخل مبنى السجل العدلي في التاسعة صباحاً، أُطلقَ سراحه في الساعة الثانية بعد الظهر من المبنى نفسه، بعدما وصلت "نشرة" براءته، وحصل على سجل عدلي يفيد أن لا حكم عليه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024