بيروت.. المستقبل لـ"البْرجوَزة"

سوسن سعد

الإثنين 2015/03/09
ينظم قسم العمارة في "الجامعة الأميركية" في بيروت، ندوة سنوية تحت عنوان "نقاشات المدينة" (City Debates)، يحاضر فيها معماريون، ومنظرون في العمارة، من اختصاصات علم الاجتماع المديني والإقتصاد المديني وأساتذة جامعيون من لبنان وخارجه. وتمحورت ندوة هذه السنة، التي استمرت ثلاثة أيام (الأربعاء، الخميس والجمعة في الأسبوع الماضي) حول دراسات ومحاضرات عن الـ"Gentrification"، وهو مصطلح إذا ترجم إلى اللغة العربية لا يطرح المعنى الواسع والمطابق للمعنى الذي يُقصد منه عند تداوله باللغة الإنكليزية. وهو، في الأساس، مصطلح جديد حتى على اللغة الإنكليزية نفسها. إذ أن روث غلاس (Ruth Glass)، وهي عالمة اجتماع ألمانية، كانت أول من استعمله وتحدث عنه في العام 1964.


لكن المصطلح يمكن ترجمته بـ"البرْجوَزة". أما في مجال العمارة والتنظيم المدني فيُقصد به ظاهرة ديناميكية مدينية تطرأ على مناطق وأحياء الطبقات الفقيرة، التي تتجاهلها الدولة، فتنتج ديناميكيات اجتماعية-مدينية جذرية فيها، بحيث تتحول المباني التراثية والقديمة التي يسكنها فقراء المدينة إلى مناطق سكن جديدة للطبقات الغنية ومتاجر لها وغير ذلك. وعادة ما تجذب هذه الأحياء "المُبرجوَزة" إستثمارات ونشاطات إقتصادية جديدة فترتفع الإيجارات، ويصبح سكن الطبقات الفقيرة فيها شبه مستحيل. وهذا ما حصل فعلاً في منطقة وسط بيروت، بعد مشروع شركة "سوليدير"، كما حصل في منطقة وسط القاهرة، في مصر، بعد مشروع شركة "الإسماعيلية"، والتي ألقى مديرها التنفيذي أحمد حلمي محاضرة خلال هذه الندوة عن "دور" شركته في إعادة إحياء وسط القاهرة (منطقة الخديوية تحديداً). وقد وُوجهت محاضرته هذه بإعتراضات شديدة وسخط من قبل المشاركين، وخصوصاً المصريين.

والحال ان بعض السلطات الحكومية تحاول الحد من هكذا ظواهر مدينية لما لها من تأثير سلبي على الطبقية الاجتماعية والديناميكيات المدينية. أو قد تعمل، على الأقل، على منع شركات التطوير العقاري من شراء المباني التراثية المسكونة من قبل الفقراء لتتدخل، بدلاً من ذلك، ببرامج ترميمية ودراسات خاصة بها. وفي دول أخرى قد تحفز القوانين الرسمية، المعتمدة في البلد، على انتاج هذه الظاهرة.

واللغط في فهم هذا المصطلح استعرضته إحدى المحاضرات، وهي طالبة الدكتوراه التركية في جامعة "أوكسفورد" (برنامج أوكسفورد لمستقبل المدن) ابرو سويتمل (Ebru Soytemel). وتمحور موضوع دراستها حول صعوبات المفهوم والتقنيات البحثية في موضوع الـGentrification في تركيا. وهذا ما ينطبق على الدراسات الأخرى التي أُستعرضت خلال الندوة والتي اعتمدت مدناً عربية، كنماذج لها، ومنها مدينة بيروت، التي تناولتها دراسات بحثية عديدة لطلاب دكتوراه.

ركزت هذه الدراسات على أحياء بيروتية عديدة عاشت أو تعيش هذه الظاهرة، ومنها منطقتا مار مخايل والجميزة اللتان تشهدان "برجوزة" على الصعيد التجاري. وكذلك الأمر بالنسبة الى حيي الأشرفية والباشورة، لكن على صعيد سكني، كما في حالات هدم المباني التراثية وتعمير أبراج مكانها (مثل "سما بيروت" و"سكاي غايت" وغيرهما). والسبب الأساسي في حصول ذلك "مياعة" قانون البناء المعمول به حالياً في بيروت، لناحية سماحه بإستثمارات بإرتفعات عالية للأبنية وعدم وجود حماية قانونية للمباني التراثية. وهذا ما حفّز شركات التطوير العقاري على المضي في هذه المشاريع وتحويل بيروت إلى غابة من الأبراج، التي لا يمكن أن تعيش فيها إلا الطبقات البرجوازية، نظراً للإرتفاع الجنوني لأسعار المتر المبني، والتي تبدأ بـ1800 دولار وتصل في أقصاها، حالياً، إلى 9 آلاف دولار، وهي في إرتفاع مستمر.

ومن ناحية اجتماعية، تتهجر الطبقات الفقيرة، من هذه الأحياء، لتحل مكانها طبقات أغنى. وهذا ما تحدثت عنه ماريك كرنينن (Marieke Krijnen) من جامعة غانت في بلجيكا (Ghent University) في دراساتها عن بيروت والتغيرات المدينية–الاجتماعية فيها. ولعل أبرز محاضرتين تناولتا مدينة بيروت هما للمعمار هشام أشقر من جامعة "هافين-سيتي" (HafenCity Universitat) في ألمانيا، والدكتورة منى الخشن من "الجامعة الأميركية" في بيروت.

وتحدث أشقر في دراساته عن قانون البناء والايجارات في لبنان، باعتباره محفزاً طبيعياً لهذه الظاهرة المدينية وما تنتجه من فكرة أن الطبقات الغنية في بيروت (والقادمة من خارجها) تسكن داخل هذه الأبراج لأنها الخيار الوحيد الذي يقدمه لها المُطور العقاري. فيما تناولت الخشن منطقة رأس بيروت، والعوامل التي دفعت إلى تحولها من حي سكني مكون من مبان متواضعة، بطبقتين أو أربع، إلى منطقة أبراج ومبان سكنية للأغنياء. وهي تُرجع ذلك الى عملية نقل الملكية وتفتتها بفعل الوراثة، والقانون الذي يُعطي هامشاً واسعاً للإستثمار والإرتفاع.

على ان هذه الدراسات جميعها أجمعت على أن مستقبل بيروت المعماري يسير، بخطى سريعة، لتأكيد تحولها إلى مدينة أبراج وأحياء حصرية للطبقات الغنية، وخلوها شيئاً فشيئاً من الطبقات الفقيرة. ويبدو مفارقاً وساخراً، ان هذه الأبراج التي يُسوّق لها عادة على أنها تقع في "حي تراثي سكني" (كما في الأشرفية)، تحل محل هذه المباني التراثية نفسها، بعد هدمها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024