تحقيق استقصائي في الآثار: المتاحف والتجارة والنهب (1)

منى مرعي

السبت 2019/04/27
تنشر "المدن"، ابتداء من اليوم، تحقيقاً موسعاً من أربعة أجزاء متتالية، عن عوالم الآثار ومتاحفها وجامعيها.. كما عن تهريبها والاتجار بها، وسياسة الدولة اللبنانية ودور الوزارات المعنية.

منذ ما يزيد عن الأسبوعين، نُظمَت حملة اعتراض على ضمّ وزارة الثقافة لمتحف "نابو" ضمن لائحة الفضاءات المشاركة في ليلة المتاحف. في التاسع والعشرين من آذار، بعد عدم تلقي جواب من المديرية العامة للآثار، وجهت الناشطة والأثرية نيللي عبود رسالة مفتوحة على صفتحها الفايسبوكية، أوردت فيها ما يلي: "في سابقة خطيرة، تم إدراج ما يسمى "متحف نابو" الواقع في الهري - شكا، ضمن المتاحف المشاركة في ليلة المتاحف، المقرر إقامتها في 6 نيسان 2019.. وفي التفاصيل: بعد رفض القيّمين على "نابو" الاستجابة للمساءلة حول مجموعة الرقم المسمارية المسروقة من موقع "Irisagrig" في العراق، والتي ظهرت ضمن مجموعات "المتحف" المذكور. وبعد هرج ومرج، رافق افتتاح هذا "المتحف"، وشبهات طالت مصدر مجموعاته الأثرية، تم إشراك "نابو" في احتفالية ليلة المتاحف، بالرغم من عدم قبول طلب انضمامه من المرة الأولى.. ". هكذا، بلهجة صارمة وحادة، ساءلت نيللي وزارة الثقافة لضمها "متحفاً" وصفته بالـ"مشبوه" طارحةً سلسلة من الاستفهامات حول خضوع الوزارة لسلطة رجال الأعمال، وحول تفضيل المصالح الشخصية على المحافظة على الآثار الخ.


الإتجار بالآثار المنهوبة
على الرغم من النظرة الإيجابية التي أحملها على حدٍ سواء للمتحف المذكور، الذي يُحتفى به، والذي يشكل خطوة مهمة على صعيد المتاحف في لبنان، نظراً للمجموعة الفنية وللمقتنيات الأثرية التي يقتنيها، ونظراً لموقعه ولتصميمه الهندسي الفريد، وعلى الرغم من اهتمامي بحدث "ليلة المتاحف"، إلا أن المعلومات التي أوردتها نيللي عبود استدعت الانتباه والتساؤل.

كل هذه الإيجابية التي أتمسّك بها، والتي أحملها عندما أنظر إلى حدث "أمسية المتاحف" وافتتاح متحف نابو، تصطدم بتدوينة على فايسبوك، تحيل إلى ما هو أكبر من الأمسية، وتشير إلى إشكالياتٍ وتشعبات متعددة حول نابو، وحول المتاحف الخاصة، ومصادر المقتنيات الأثرية والإتجار غير المشروع بها، سيّما أننا في زمن "داعش" وتجارة الدم في سوريا والعراق، وسيّما أن لبنان موقّع على عدة معاهدات دولية، تكفل حماية القطع الأثرية والممتلكات الثقافية، وتحظر الإتجار بها، يُذكر منها على الأخص اتفاقية لاهاي عام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاعات المسلحة، واتفاقية اليونسكو 1970، التي تحظر الإتجار بالممتلكات الثقافية.  

في اللقاء السنوي الذي قامت به [1]ASOR قدمت هيلين صادر، أستاذة محاضرة في الجامعة الأميركية في بيروت، جلسة مطولة تحمل العنوان التالي "بين اللصوص، مالكي المجموعات وأمراء الحرب: هل هنالك من فرصة نجاة للآثار؟". تشير صادر في تلك المحاضرة، إلى متحف نابو، كونه يقتني قطع أثرية منهوبة من لبنان، العراق، سوريا واليمن. تذكر أن أحداً "لم يسأل عن مصدر المقتنيات، وكيف تمكّن المالكون من شرائها ومن عرضها بشكل قانوني في متحف خاص"، غامزةً من قناة السلطات المحلية، المخوّلة متابعة الموضوع، وهي وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار. إزاء كل هذه المعطيات، كان من المهم التواصل مع كافة الأطراف المعنية بالموضوع، وهم المديرية العامة للآثار، السفارة العراقية، والتي يمثلها السفير علي العامري، والمحامي الذي يتابع هذا الملف في العراق السيد علي الطائي، نيللي عبود، القيمون على متحف نابو، سوزي حاكيميان مديرة المجلس الدولي للمتاحف، جمعية الجنوبيون الخضر ويمثلها الدكتور هشام يونس، وهيلين صادر.

متحف نابو: شائعات أم شبهات؟
يملك متحف نابو جواد عدرا، وهو مدير عام الشركة الدولية للمعلومات، وصديقاه فداء شديد وبدر الحاج. ويعود القسم الأكبر من مجموعة المتحف لعدرا، كونه جامع من الطراز الرفيع لقطع أثرية وللوحات فنية ومنحوتات متعددة. هذا الصرح الضخم بلغت كلفته ملايين الدولارات، وتمّ افتتاحه في أيلول من العام المنصرم. لا تساق الشبهات فقط فيما يتعلق بالرقم المسمارية العراقية، الخاصة بالمتحف، إنما هنالك أيضاً مصادر تذكر أن الشبهات تطال أيضاً مجموعة عدرا الخاصة للمسلات الفينيقية الجنائزية، التي تعود إلى موقع صور - البص، الذي تعرض لسرقات عديدة في التسعينات. تلك المعلومات متداولة بين عدد من الأكاديميين والخبراء الأثريين والصحافة الدولية، وإن ما زال حجم النقاش في الموضوع داخلياً محدوداً جداً. وإذا ما تمّت العودة إلى مقالة مي مكارم، التي نُشرَت في صحيفة لوريان لو جور في تموز عام 2014 حول المجموعة الخاصة بجواد عدرا، يُذكَر بصريح العبارة، في المقطع الأول من المقالة التي تلقي الضوء على مجموعته الخاصة، أن الدعامات التي تنتمي إلى المجموعة المذكورة "بحكم تاريخها وبعض البيانات الأثرية، تحيل إلى أنها تعود إلى مقبرة صور - البص التي نُهبَت في بدايات أعوام 1990، والتي انتشرت آثارها في سوق التحف". لم يصدر أي اعتراض من عدرا آنذاك، مع العلم أن المقالة بأكملها خُصصت لكتاب ضخم لكل من كابي أبي سمرا وأندريه لومير، فيه دليلٌ مفصل لكلِ من الـ66 مسلة فينيقية جنائزية التي يملكها عدرا. في مقدمة الكتاب الذي نشرته دار الكتب التابعة له، يُذكر أن عدرا جمع مجموعته هذه، التي تلقي الضوء على "مملكة صور خلال النصف الأول من الألفية الأولى قبل الميلاد"، "بصبرٍ وتأنٍ"، من دون أن يتم ذكر مصدر وطريقة الحيازة. يختم كل من أبي سمرا ولومير أن مجموعة عدرا اذا ما أضيفت إلى "المسلات البالغ عددها 50 مسلة، التي كانت قد وثقتها هيلين صادر.. من خلال مؤلف نُشِر في العام 2005" تشكل "نصف عدد المسلات الجنائزية التي جرى اكتشافها خلال عمليات التنقيب السرية في منطقة البص في صور..". ثم يصرّح الباحثان أن عدداً كبيراً من هذه المسلات ما زال غير معلن عنه، وهو محصور في إطار مجموعات خاصة. ويكملان قائلان "يُرجى من أصحاب هذه المجموعات الإفصاح عنها في منشورات علمية، في حين تستمر عمليات التنقيب الإنقاذية في تسليط الضوء على اكتشافات جديدة". كتبت المقدمة في حزيران 2013.

في سياقٍ آخر، يذكر موقع live science أن وثائق حكومية أميركية، تعود إلى وزارة العدل، تشير إلى أن أهم القطع الأثرية التي تم اكتشافها في مواقع أثرية جنوب العراق في ما يعتقد أنها مدينة Irisagrig المفقودة، قام ببيعها ثلاثة تجار من إسرائيل إلى متجر وموقع هوبي لوبي في أميركا. يذكر كاتب مقال Live Science أن جواد عدرا يملك حوالى مئة من الرقم المسمارية، التي يعتقد أنها تعود إلى تلك المدينة المفقودة. حين طُلِب من عدرا التعليق على تلك الوثائق، لم يلق موقع live science أي رد. كما ويشاع أن لدى افتتاح المتحف المذكور، ثارت ثائرة السفير العراقي، الذي تواجد نهار الافتتاح، حيال الرقم المسمارية الموجودة فيه.

لقاء التاسع من نيسان مع عدرا
لم ألتقِ يوماً بجواد عدرا، كل ما أعرفه عنه أنه رُشًّح لأن يكون الوزير السني "الملك" قبل أن يسحب ترشيحه. كنت قد قرأت عن القطع التي أنقذها من ورثة وأصدقاء موشيه دايان، والتي كثر الحديث عنها. عند الإتصال به، رحب باللقاء قائلاً: "تعي عالمكتب، بركي بتشوفي القطع اللي سرقناها (ساخراً أو ممازحاً)". عندما دخلت إلى مكتبه، كان يعطي بعض التعليمات لإحدى الموظفات. وطلب مني البقاء، رغم أني اقترحت الانتظار في الخارج. كي أكسر شعوري بالتطفل، جلست أنقّل ناظري في اللوحة الضخمة التي بوجهي. ولكسر الجليد، حين غادرت الفتاة، سألته عن اللوحة. وباشر عدرا بجولة في مكتب الدولية للمعلومات، عارضاً اللوحات التي يملكها، فظهرت أعمال صليبا الدويهي، ومنير الشعراني وغيرهم. تحدثنا لأكثر من ساعة حول شتى المواضيع، قبل أن نباشر في هدف اللقاء. ولن أخفي أن الحديث كان ممتعاً. ناقشنا في قضايا راهنة وكان غالباً ما يذكر عبارة "الصالح العام". وكم هو معني بها. في كل مرّة كنت أعود فيها إلى موضوع شبهات نابو، كان يذكرني مراراً أن من ينقذ مقتنيات أثرية فلسطينية من أيدي ورثة وأصدقاء موشيه دايان، لا يقوم بهذا النوع من الأفعال. سأل أكثر من مرة: "إنتي شو رأيك؟ معقول حدا خلّص قطع من فلسطين يعمل هيك؟ إنتي شو رأيك". "نحن في عالم مليء بالتناقضات". كنت أجيب. حدثني أنه كان أوّل من صرّح عن مقتنياته للدولة اللبنانية، وأنه هو من يريد أن يتبع السبل الشرعية، بدليل أنه من الأوائل الذين دفعوا نحو إقتراح المرسوم 3065، الذي يشجع أصحاب المجموعات الخاصة بالتصريح عن ممتلكاتهم الأثرية. ما هو هذا المرسوم اذاً؟ وكيف استكمل اللقاء مع جواد عدرا؟

(وللتحقيق تتمة)


[1]American Schools for Oriental Research وهي جمعية لا ربحية تم تأسيسها عام ١٩٠٠ تضم أهم الجامعات والمؤسسات الأكاديمية وهي تعنى بالبحث حول تاريخ وثقافات الشرق الأدنى والمتوسط.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024