لولا الموت.. لكانت الحياة أجمل مع كورونا

نبيلة غصين

الجمعة 2020/03/27
تناولت أفلام خيالية كثيرة، وعلى مدى عقود، أحلام البشر باختراع آلة تعود بهم عبر الزمان، فجاءتهم الآلة اليوم على شكل وباء اسمه كورونا.

مشاهد بيروت الستينات
أعاد الفيروس العالم بأسره عشرات السنين إلى الوراء، وحدها الشبكة العنكبوتية باتت تسعف البشرية، في حفاظها على تواصلهم واقتصادهم وأعمالهم في عزلاتهم المنزلية. فرض الوباء ذوقه وخياراته على العالم بأسره. ربما لم يعجبه ما آلت إليه حال البشر والطبيعة الأم. اختار لتفشيه الحقبة الزمنية التي تريد، وأرغم الجميع على توقيف حياتهم، ضجيج حياتهم وصخبها الأهوج. أعاد ترتيب أذواقهم ورغباتهم وتوجهاتهم، وأعادهم مرغمين إلى خليتهم الأولى.

ضجيج السيارات الذي أسكت عصافير المدينة، غاب عن عالم كورونا، فانطلقت حناجر العصافير في الفضاء الخاوي. وفي جولة سريعة في شوارع بيروت المهجورة، صرنا نسمع العصافير تطلق العنان لزقزقتها. وعادت ألوان بيروت لتصبح أكثر وضوحاً، بعدما شوه التلوث والغبار مشهدها. في زمن كورونا عادت بيروت إلى ما كانت عليه في مشاهد أفلام سينمائية في ستينات وسبعينات القرن الماضي. مشاهد من تلك الحقبة مستدخلة في كادر من 2020. ولا يقتصر الأمر على صورة المدينة الخارجية، بل يتعداها إلى الممارسات اليومية للسكان. عدنا إلى البحث في أقبية الذاكرة عن أنماط سابقة للعيش، تلك التي أثبتت أنها الأقوى والأجدر بالبقاء.

البقاء للأنقى
أرغم كورونا العائلات على التخلي عن ثقافتها الاستهلاكية وكمالياتها، بحثاً عن أساسيات الحياة والاكتفاء الذاتي. تهديد الأزمة الاقتصادية الزاحفة، إقفال متاجر المواد الغذائية، أعادانا إلى تخزين المؤونة والمعلبات. لصنع المناقيش والخبز البلدي، أخرجت أمهات الصاج والطابونة من عزلة المقتنيات القديمة المنسية. بعضهن بدأن في خياطة أكياس الخام لصنع اللبنة في المنازل. وبعضهن استعدن ذاكرتهن الإبداعية في صنع الحلويات والمأكولات البيتية. والنساء اللواتي كن يتباهين بطبخهن، ويرسلن الأطباق لجاراتهن لتذوقها، قبل استعمال الشبكة العنكبوتية، بتن اليوم يكتفين بالتقاط صور أطباقهن وبثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيكتفي الأصدقاء برؤية صور لا طعم لها ولا رائحة. 

في ظل التوقف عن الذهاب إلى التعاونيات الكبيرة المزدحمة بالمتبضعين ونشر الفيروس، أعادنا الباعة الجوالون إلى أزمنة سابقة. ولضرورات الحماية الذاتية، عادت الأمهات تفضلن شراء حاجياتهن من هؤلاء الباعة. وإذا كانت أشعة الشمس عدوة البائع المتجول في السابق، لأنها تعرض بضائعه للتلف، أضحت اليوم حليفته في تعقيمها المنتجات كافة. فيما نمط الشراء من البائع الجوال الذي لا يجتمع حوله أكثر من شخصين أو ثلاثة، يبعث الطمأنينة أكثر من المتاجر الكبرى المقفلة والمزدحمة.

حياة منزلية
وكانت العائلات في السابق تمضي معظم أوقاتها مجتمعةً، فيشترك أفراد العائلة في إنجاز أعمال تتصل بعادات زراعية. وفي الشتاء كان يحلو السمر العائلي في المنازل العائلية. والتعبئة العامة أجبرت الشركات والمؤسسات على الإقفال، فعاد الأطفال إلى أحضان أمهاتهم وآبائهم وعادت "لمّة العيلة" لممارسة طقوس جميلة، أنساهم إياها صخب الحداثة. عاد الأولاد والأباء لمساعدة أمهاتهم وزوجاتهم في تجهيز الطعام. وعادت الألعاب القديمة الجماعية، كلعب الورق والمونوبولي، أو مشاهدة التلفزيون الجماعية. وفي ظل التقشف الاقتصادي عادت العائلات في السهرات إلى استهلاك الترمس والبزر والبوشار المحضر منزلياً، بدلاً من المكسرات الباهظة الثمن. وإقفال النوادي الرياضية أعاد المجد لاستخدام أثاث المنازل كأوزان ومعدات لمزاولة محبي الرياضة تدريبهم.

جمال بيتي
بفعل حظر التجول والخوف من عدوى كورونا، توقفت النساء عن الذهاب إلى مراكز التجميل. بتن مرغمات على ترتيب أمورهن بأنفسهن. أخرجن عدتهن المهملة، وعدن إلى تنقيب حواجبهن وتقليم أظافرهن وطلائها بأنفسهن. وهذا ما ينطبق على صبغهن شعرهن الشائب، وإزالة الشعر الزائد. ومع إنتهاء أزمة كورونا ستكون المرأة قد استعادت جزءاً من خصوصيتها الجمالية، بعدما تحولن بفعل عمليات التجميل دمى بخصائص متشابهة تحددها معايير الجمال العالمية الواهية.

وسمح كورونا للنساء فرصة التعرف على ذواتهن من جديد. وعلى مواجهة حقيقة تبدل ملامحهن بفعل التقدم في العمر.

تصورات الجسد
في التصورات المجتمعية للجسد لطالما كانت الأيدي مفضلة عن الأرجل. فاليد أو الكف هي العضو الأسهل في العمليات كافة. لذا يتوجب غسلها مراتٍ عدة بحكم استخداماتها المتعددة. واليد اليمنى مفضلة عند الله في الدين الإسلامي على اليد اليسرى.

أما القدم فهي في التصورات العامة العضو الوسخ من الجسد، ومكانها الأرض "الواطية"، الملوثة والمسكونة بالشياطين. فيما اليد عالية ترنو إلى السماء، حيث الله. وقد أعفيت الأقدام وأجزاء أخرى من الجسد من الاستعمالات اليومية المتكررة. فكان فتح الأبواب بالأرجل على سبيل المثال، من العيب والإخلال باللياقات العامة.

أما اليوم، في ظل توخي الحذر من كورونا، فباتت الأرجل والأقدام أجزاء أساسية للوقاية من العدوى. وهي أصبحت تستعمل لفتح أبواب المصاعد وأبواب السيارات التي قد تشوبها فيروسات الوباء. ومع تحول الأيدي إلى عضوٍ خطر ناقل للمرض، إرتقت الأرجل لتصبح منقذة البشر.

تتعاون اليوم أطراف الجسد كافة للحفاظ على صحة الإنسان. مفصل اليد (الكوع) الذي غالباً ما لم يحتاجه المرء في شيء، صار يستخدم للضغط على رز المصعد أو جرس الباب، ولحجب رذاذ السعال أو العطس تدراكاً لبث الفيروس في أي مكان. كذلك باتت اليد اليسرى هي اليد المفضلة والأوجب للمس الوجه، كونها اليد الأقل استعمالاً، وبالتالي الأقل عرضةً لحمل الفيروس ونقله.

عادات قديمة تعود
أصبح للأقسام المشتركة في المجمعات السكنية والأبنية استعمالات جديدة. بات لسطوح البنايات وظيفة جديدة، بعدما كانت مهملة تماماً. تحولت أماكن للفسحة التي حُرم منها سكان المنازل الضيقة. كذلك تحولت (سفرة) الدرج أو المساحة والفاصلة المشتركة بين منزلين المكان الأنسب لتعقيم المشتريات، بدلاً من إدخالها موبوءة إلى المنازل. واستعادت العائلة تقليد خلع الأحذية على سفرة الدرج أمام الأبواب. وصارت الأقدام تدخل حافية إلى المنازل. وهذا تقليد كان سائداً عندما كان لمفاهيم الطهارة والنجاسة أثر في حياة الناس. لكن الالتزام بأتيكات التصرف والمنظر العام، ألغى هذه العادة، فبات دخول الجراثيم والباكتيريا إلى المنازل "أرقى" من مشهد الأحذية أمام أبواب المنازل.

خلع كورونا عن العالم المظاهر المصطنعة. أعاد الجميع إلى أزمنة خوالي بعيداً من التكلف. أعادهم إلى البساطة الحقيقية، إلى الأرض، إلى الطبيعة.

وأخيراً توازنت سرعة دوران الأرض مع سرعة حركة البشر.

كورونا أبطأ الزمن وأعادنا إلى المكان. وهذا ما سمح بالتأمل، بالتعاطف والتضامن.

لولا الموت لكانت الحياة أجمل مع كورونا.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024