أردنية من أصل فلسطيني تُصالحُها 17 تشرين مع اللبنانيين

محمد أبي سمرا

السبت 2020/10/17
روت هذه التجربة – الشهادة امرأة متزوجة من لبناني، وتحمل الجنسية اللبنانية، وتقيم في بيروت منذ 17 سنة، وعملت حوالى 7 سنوات بمنظمة دولية في مخيمات الفلسطينيين في لبنان، وعايشت بؤسهم وعذاباتهم، ثم شاركت في انتفاضة 17 تشرين.

ولدتُ سنة 1968 في عمان من والدين فلسطينيين، وحملت الجنسية الأردنية، ونشأت في بيئة فلسطينية - أردنية مختلطة. وكان والدي الفلسطيني شيوعياً في شبابه، وانضوى في "حركة فتح"، فانتقل للعمل في صفوفها وعاش تجربتها في لبنان. وغادر بيروت سنة 1982 إلى سوريا، ثم إلى الضفة الغربية بعد اتفاق أوسلو سنة 1993.

بين الأردن وفلسطين
عشت حياتي كلها في عمان حتى زواجي من لبناني سنة 2003، فانتقلت للإقامة في بيروت، وحصلت على الجنسية اللبنانية بعد مدة، وظلت لهجتي خليطاً من الأردنية والفلسطينية. وأثناء حياتي الطالبية في الجامعة الأردنية بعمان، كان معظم طلابها من الأردنيين. لكن مخالطتي إياهم، وسهولة علاقاتي بهم، لم تعرضاني لتجربة تمييز أو صدّ منهم  تحملني على التشبث بأصولي أو بهويتي الفلسطينية، والتشديد عليها في الوسط الطلابي الجامعي الأردني الغالب. لا بل حملتني تجربة حياتي وعلاقاتي في الجامعة على التصالح والوئام مع هويتي المزدوجة، فصرت أقول وأعرّف عن ذاتي بأنني أردنية من أصل فلسطيني، بعد ما كنت أعتبرني، قبل حياتي الجامعية، فلسطينيةً تحمل الجنسية الأردنية.

وعندما توفي والدي في رام الله سنة 1997، زرت للمرة الأولى والأخيرة الديار الفلسطينية مدة أسبوعين، مشاركةً في مراسم الدفن والعزاء. ثم تنقّلت بين رام الله ونابلس والقدس وحيفا ويافا في فلسطين ما قبل 1948، زائرة مستطلعة. وحين التقيت أقاربي وأصدقاء أهلي، وبعض العائدين حديثاً إلى أراضي السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بعد أوسلو، اكتشفت أن الناس هناك لا يشبهونني في حياتهم ونمط عيشهم، ولا أنا أشبههم. ورأيت أن العائدين ما زالوا يبحثون عن مكانهم الذي لم يجدوه بعد، ويحاولون التأقلم مع حياتهم الجديدة. لذا شعرت باستحالة عودتي إلى فلسطين وإقامتي وعيشي فيها. وهكذا بدأت أقول إن فلسطين قضيتي، وليست هويتي ومكان حياتي وإقامتي، وازداد يقيني بأنني أردنية من أصل فلسطيني، فعدت إلى حياتي وعملي في عمان، حتى تزوجت لبنانياً وانتقلت للإقامة والعيش والعمل في بيروت سنة 2003.

فلسطينية في بيروت
أروي هذه المقتطفات أو العناوين من حياتي الأردنية - الفلسطينية، كمقدمة سريعة لتجربة حياتي الجديدة في لبنان وفي انتفاضة 17 تشرين 2019 في بيروت. وهي تجربة استغرقت حتى اليوم 17 سنة من عمري، وعشتها كلها بمشاعر مختلطة، مضطربة ومتناقضة ومتدافعة، حيال هويتي، واختبرتها في دوائر متباينة من المجتمع اللبناني، الذي عشت في واحدة من دوائر فئاته المتوسطة في بيروت.

فالأردنية من أصل فلسطيني التي كنتها في عمان، سرعان ما تحولت إلى فلسطينية، وفلسطينية فقط وصافية في بيروت ولبنان. وهذا ما راحت تطالعني به وترغمني عليه ردود فعل لبنانيين كثيرين - تعرفت إليهم وخالطتهم بتفاوت في دوائر حياتي اللبنانية البيروتية - ما أن يسمعوا لهجتي كلما تكلمت. وإلى لهجتي الفلسطينية - الأردنية المختلطة، قد يكون ما ساهم بقوة في تنبيهي إلى فلسطينيتي وشدِّي وجذبي إليها وإصراري عليها، هو عملي في المخيمات الفلسطينية في لبنان، موظفة في وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) وسواها من المنظمات الاجتماعية والإنسانية، منذ بداية إقامتي في بيروت، ولمدة نحو سنوات سبع متواصلة ما بين 2005 و2012.

لقد ورطني بؤس الفلسطينيين وقهرهم في المخيمات، وما يتعرضون له من عزلة وتمييز وظلم في لبنان، على الصعد القانونية والإدارية والإنسانية، وفي منعهم من العمل، ومعاملتهم كزوائد يجب محاصرتها والتخلص منها - ورطني هذا كله في أن أعود أو أصير فلسطينية وجدانياً وعاطفياً وإنسانياً. فتبنيت فلسطينية أهل المخيمات، وصاروا قضيتي الإنسانية، في وجه نفور اللبنانيين عامة منهم، وتحميلهم مسؤولية تجربة منظمة التحرير السيئة في لبنان، والتي قد يكونون ضحايا، كسواهم من اللبنانيين. واستغرق مني وقتاً وجهداً كبيرين فهمي تجربة المنظمات الفلسطينية المسلحة ومساوئها على اللبنانيين والفلسطينيين الذين تُركوا لمصيرهم البائس والمؤلم في مخيماتهم الغيتوات، من دون أي تعاطف من اللبنانيين، إلا في ما قلّ وندر.

ثم إنني فكرت أن الجماعات اللبنانية خرجت من الحرب الأهلية، واستسهلت طي صفحتها الدموية، لتتفق ضمنياً في ما بينها، على تحميل الفلسطينيين وبقاياهم في لبنان المسؤولية الكاملة عن تلك الحرب التي برأوا أنفسهم منها. أتعبتني وأرهقتني تجربتي في المخيمات، وكذلك ما لمسته من تقصير لبنان واللبنانيين الإنساني تجاههم. طبعاً عشت ولمست بعض التفاوت في تعامل اللبنانيين مع فلسطينيي المخيمات. لكنه تفاوت ضئيل قياساً بما تعانيه هذه الجماعة المعزولة المنبوذة المتروكة لمصيرها المرير.

وفي العام 2007 عشت بغضب تجربة حصار مخيم نهر البارد في الشمال وتدميره طوال أشهر، واجماع اللبنانيين على تلك العملية العسكرية القاسية التي دمرت المخيم على سكانه، بحجة القضاء على عشرات من منظمة فتح الإسلام. لقد تعامل اللبنانيون بلا إنسانية مطلقة بلغت حدود العنصرية مع فلسطينيي ذاك المخيم، وكأنهم حشرات وليسوا بشراً. هذا علماً أن مخيم نهر البارد من أغنى المخيمات الفلسطينية في لبنان، لأنه يضم شركات ومؤسسات تجاريةـ ويعتبر أهالي المخيمات الأخرى أن سكانه أغنياء ومن البورجوازيين.

ومن الحوادث التي عرّفتني على وجه من وجوه أحوال عيش الفلسطينيين في لبنان، مصادفاتُ أن يكون بعض من يعملون فاليه باركنغ في شارع الحمراء من الفلسطينيين. فما أن أركن سيارتي في أحد المواقف هناك، ويسمع الفاليه لهجتي الفلسطينية، حتى ينتحي بي جانباً ليقول بصوت خفيض خائف: أنا مثلك فلسطيني، ويروح يحدثني بلهجته الفلسطينية التي يخفيها ويتحدث بلهجة لبنانية، كي يشغّله صاحب موقف السيارات. لكن في المقابل، يا ما سمعت معارف وأصدقاء لي فلسطينيين يقيمون في رأس بيروت، ويرفعون أصواتهم وسط الشارع ويتحادثون تلقائياً بلهجتهم الفلسطينية. وفيما كان بعضهم يعرّفني على آخرين من صحبه ومعارفه، فيسألني هذا أو ذاك منهم من أي بلدة فلسطينية أنا، فأجيبه ليروح بدوره يقول أنه من يافا أو من حيفا بكل تلقائية، هكذا وسط الشارع. وهذا ما نبهني إلى أن النخبة الفلسطينية المقيمة منذ زمن بعيد في رأس بيروت تعيش فلسطينيتها بلا كتمان ولا تردد ولا مشكلة، وتعلنها في أي وقت ومكان. وانتبهت إلى أن الهوية لا تخلو من التمييز الطبقي، الذي يلابسها ويحدّد كيفية عيشها وأسلوبه، وتعامل الآخرين مع أهلها والمنتمين إليها.

والدوائر المختلفة والمتباينة التي عشت فيها وخالطت أهلها في لبنان، تتفاوت نظرة من عرفتهم وعايشتهم فيها إلى الفلسطينيين وتعاملهم معهم وموقفهم منهم ومن قضيتهم. وهذا ما عرضني إلى تجارب كثيرة ملتبسة، محرجة ومتضاربة، حسب هذه الدوائر التي غالباً ما كان عليّ فيها أن أبرِّر فلسطينيتي أو أدافع عنها، كأنني في ورطة متعبة ومزعجة، وأعيش هويتي بمفعول رجعي، تختلط فيه مأساة فلسطيني المخيمات والإرث السيء لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. ومن تجاربي التي ورطتني في هذا الإرث، أن صديقة لي مسيحية لبنانية تعمل في مكتبة جامعية، بادرت إلى شتم الفلسطينيين، فيما كنا نتعانق باكيتين أثناء مشاهدتنا تشييع شاب مسيحي قُتل في الأشرفية في حادثة هجوم شابين مسلحين على ساحة ساسين، أحدهما فلسطيني والآخر شيعي، وراحا يطلقان النار عشوائياً وترويعاً، فقتل الشاب المسيحي في تلك الحادثة قبل سنوات سبع أو ثمان. وأذكر أن تلك الصديقة، فيما هي تنظر دامعة إلى مشهد تشييع الشاب المسيحي، لعنت الساعة التي أتى فيها فلسطيني إلى لبنان. وبعد أيام حاولت الصديقة تبرير ما حصل، فروت لي ما تعرض له أهالي حارة حريك المسيحيين التي كان أهلها من سكانها في بدايات حروب لبنان، وعاشوا الأمرّين جراء انتشار الفلسطينيين ومسلحيهم في الحارة التي سرعان ما هجروها مرغمين.

عشت حياتي طوال 17 سنة في لبنان مكبّلة تقريباً بمثل هذه المفاجآت والالتباسات الناجمة كلها عن فلسطينيتي التي أُرغمتُ على التشبث بها ومكابدتها، من دون أن يتاح لي أن أتصالح مع جنسيتي وحياتي اللبنانيتين. وهذا كله لم أعشه في الأردن التي تُعاش الهويات فيه على نحو أبسط بما لا يقاس مقارنة بلبنان الذي يعيش أهله في اضطراب الهويات وتنافرها وتنابذها في حياتهم اليومية وسلوكهم وكلامهم ومواقفهم. وبقيت على هذه الحال حتى حررتني منها انتفاضة 17 تشرين التي اندفعتُ إلى المشاركة فيها منذ بدايتها، من دون أن أعي وأدرك لماذا وكيف حصلتْ اندفاعتي القوية تلك، إلا في خضمها، وبعد مرور شهرين أو ثلاثة على مشاركتي اليومية في تظاهرات الانتفاضة وسائر نشاطاتها.

فلسطينية 17 تشرين
في البداية لفتتني حماسة اللبنانيين ولفتني اندفاعهم، فنزلتُ إلى الشارع وساحة الشهداء برفقة زوجي وبعض أقاربه، مستطلعة مشاهدة ومتفرجة. لكنني سرعان ما انتبهت إلى جدية ما يحدث وقوّته، ولم أجد له تفسيراً لرغبتي في أن أكون وحدي، منفردة بين جموع المتظاهرين، وليس برفقة من أعرفهم ويعرفوني وصحبتهم. لاحقاً، بعد نحو شهرين من استجابتي تلك الرغبة الغامضة التي كبرت وتضاعفت، وجدت لها تفسيراً: كنت أريد أن أستطلع وحيدة منفردة ما يقوله ويفعله المتظاهرون، واختبر موضعي بينهم وموقفي منهم، وماذا يقولون لي، أنا من تنامت طوال 17 من إقامتي في لبنان مشاعري الفلسطينية المختلطة، الملتبسة والمضطربة، تجاه اللبنانيين وجنسيتي اللبنانية وحياتي في لبنان.

رحت أشارك في التظاهرات مستطلعة مشاعر اللبنانيين حيال الفلسطينيين ووضعهم في لبنان وقضيتهم، وليس حيال حضوري الشخصي بين جموعهم فحسب. ولفتني وجود شعارات كثيرة متعاطفة مع فلسطين والفلسطينيين. لكن أقوى ما لفتني هو اعتمار كثرة من المتظاهرين والمتظاهرات، لبنانيين ولبنانيات، "الحطة" (الكوفية) الفلسطينية بألوانها المختلفة.

ومن أجمل المصادفات أنني التقيت مرة في تظاهرة صديقتي اللبنانية المسيحية المقيمة في جل الديب، والتي كنا نعمل معاً في المخيمات الفلسطينية وموظفتين في الأونروا، قبل تركي ذاك العمل سنوات قبل 17 تشرين 2019. فسرنا معاً في التظاهرة، وكنت على معرفة مسبقة بتعاطفها مع الفلسطينيين ضد الظلم الواقع عليهم وعزلتهم المزرية في مخيماتهم. وكانت سعيدة فيما هي تخبرني أنها شاهدت في جل الديب أحد "ثوارها" يعتمر الحطة الفلسطينية، عِلماً ان صديقتي من وسط مسيحي متدين.

وبعد نحو شهرين من مداومتي شبه اليومية على المشاركة في التظاهرات وسواها من نشاطات الانتفاضة، تطور تفسيري لإصراري على أن أكون وحدي في التظاهرات: أريد أن أختبر متى وكيف يمكن لفلسطينيتي أن تتصالح مع اللبنانيين، واحتمال أن أصير وأكون لبنانية، وكيف يمكنني أن أكون؟ لتتغير علاقتي بهذا البلد وأهله، فتصير صحيّة، وأنتمي اليه، بعد 17 سنة سنة من إقامتي فيه وانجابي ولدين يحملان مثلي الجنسية اللبنانية.

فقبل 17 تشرين ومشاركتي فيها، كانت حيازتي الجنسية اللبنانية من طريق زواجي بلبناني، فيما لهجتي ومشاعري ووضعيتي تقول كلها أنني فلسطينية مقيمة في لبنان الذي أحبه ويقبلني وأقبله، قبول من هاجر من الأردن إليه أو إلى أستراليا مثلاً، لا فرق، فيما أنا فلسطينية فيه، ولا أنتمي إليه إلا انتماءً حائراً مقلقاً، بل متعِباً.

لقد بدأت انتفاضة 17 تشرين ومشاركتي المحمومة فيها، تردم تلك الهوة بين فلسطينيتي ولبنان واللبنانيين، ورحت أشعر للمرة الأولى أنني لم أعد أحتاج إلى تبرير فلسطينيتي وتوكيدها، وأنني بدأت أعقد مصالحة مع لبنان واللبنانيين وجنسيتي اللبنانية. فشعارات تعاطف لبنانيي الانتفاضة مع الفلسطينيين أرتني أن هناك كثرة مثلي من اللبنانيين واللبنانيات يهمهم ذاك القهر النازل على فلسطينيي المخيمات البائسين. وأشعرتني براحة غامرة مشاهدتي كثرة من المتظاهرين وقاطعي الطرق حول السرايا الحكومية، يعتمرون الحطة الفلسطينية، فيما هم يمنعون النائب علي عمار من الوصول إلى البرلمان، نهار جلسة منح الثقة لحكومة حسان دياب.

ولما بدأ فصل الشتاء والمطر، رحت أحضر في ساحة الشهداء وساحة اللعازارية جلسات نقاش كثيرة، سمعت فيها مواقف وآراء تدعم الثورة في العراق، وتستعيد دروساً من الثورة السورية، إضافة إلى أحاديث عن أوضاع الفلسطينيين في لبنان. وزادت حماستي للاستطلاع والفهم والمشاركة في النقاشات والنشاطات الكثيرة، وللتظاهرات والتواصل مع مجموعات في الانتفاضة، فتعرفت إلى كثرة منها وتوجهاتها وأشخاص من المشاركين فيها. وانخرطت في بعضها.

وسرعان ما انتبهت إلى أنني للمرة الأولى رحت أستعمل في كلامي صيغة جمع المتكلم، وأقول نحن نفعل هذا الشيء أو ذاك، ونحن نقول هذا أو ذاك، أي نحن المشاركين في هذا النشاط أو ذاك، ويجمعنا العمل والنشاط في الانتفاضة. ذلك أنني كلما كنت أتكلم سابقاً، قبل مشاركتي في الانتفاضة، أستعمل غالباً صيغة المخاطب، وأقول مع من أحادثهم أنتم تقولون هذا أو تفعلونه. وكان هذا ناجماً عن تلك المسافة الفاصلة بين لبنان وهويتي أو انتمائي الفلسطيني. كأن مشاركتي في انتفاضة 17 تشرين راحث تردم شيئاً فشيئاً تلك المسافة، فلم أعد أقول أنتم اللبنانيون، وصرت أقول نحن المشاركون في هذه الانتفاضة اللبنانية ونشاطاتها، هنا والآن.

لا، لم أشعر أنني أتخلى عن فلسطينيتي، بل رحت أدرجها في الجموع أو المجموعات التي أشارك في نشاطاتها. ولم تعد فلسطينيتي حاجزاً أو فاصلاً بيني وبين من أخالطهم من لبنانيي ولبنانيات الانتفاضة. وتلاشى شعوري بأن الآخرين يكلمونني كفلسطينية، بل يتوجهون إلي كشخص منهم ويشترك معهم في ما يفعلونه ويقومون به.

وسرعان ما رحت لا أفوت تظاهرة تقريباً، ووجدتني غالباً أتقدم الصفوف في كثرة من الصدامات والكر والفر في التظاهرات، لا عن تهور مني، بل عن حماسة تلقائية إلى ما أعيشه وأشارك وأختبر نفسي فيه وسط الجموع، وأختبر وأؤكد انتمائي إلى ما يحدث، ويعنيني أنا شخصياً ويعني الناس من حولي والبلد الذي عشت وأعيش فيه، وانتمائي المستجد إليه، ممتلئة بفرح غامر لم أشعر بمثله من قبل.

لقد عثرت على انتمائي في انتفاضة 17 تشرين. وهو انتماء مفتوح، لم أكن أعلم ولا أعلم الآن إلى أين يفضي بي، وكيف يتطور، وإلى أين سأصل ويوصلني. وفي خضم هذه التجربة الكثيفة والمتوترة، وجدتني أُقبل بتلقائية على التعارف مع كثيرين وكثيرات، وبسهولة لم أعهدها من قبل، لا في نفسي، ولا لدى الناس الآخرين. لقد أزالت الانتفاضة الفواصل بين الناس المشاركين فيها، وصار الزمن سائلاً والعلاقات سهلة وسائلة. وسرعان ما نشأت أطر مفتوحة، تلقائية ومتداخلة، فتشكلت مجموعات للقيام بأنشطة وتبادل الأفكار والآراء، فشاركت في كثرة منها واستمرت صِلاتي بها وببعض أشخاصها حتى الآن.

وفي المسيرة النسائية أو "أمهات ضد الحرب" بين الشياح وعين الرمانة، تعرفت إلى مجموعة من النساء، ورحنا ننظّم لقاءات دورية بيننا ونقوم بنشاطات مشتركة. ومنذ ذلك الحين حتى الآن ما زلنا نلتقي ونتناقش في ما يمكننا القيام به حسب متطلبات الظروف وتقلّبها. ونحن حوالى نساء عشر من مناطق وطوائف متباينة: أنا، وامرأة درزية من الجبل، وأخرى من خلفية شيوعية، وثالثة سنية من بيروت، كانت لديها تجربة في حزب قومي عروبي وناقمة عليه. وأخريات مسيحيات من زغرتا وإنطلياس، من أجواء قواتية. ونحن العشر، على صلة بمجموعات مثلنا، ويتجاوز عددهن المئة، وغالباً ما نتواصل عبر الواتس آب. وقمنا نحن العشر بدورات تدريبية لنساء على مهن وأعمال متنوعة هدفها الاكتفاء الذاتي، والمساعدات التربوية.

في غمرة اللقاءات والعمل مع هذه المجموعة من النساء اختفى شعوري بأنني فلسطينية، فلم أعد أنتبه له ولا لإثباته، ولا إلى أن الأخريات لبنانيات. وهذا ما لم يكن متوافراً قبل 17 تشرين، وهو يريحني ويبعث فيّ نشاطاً وحيوية جديدين. ولم أعد أفكر وأتحدث كفلسطينية، بل لبنانية في 17 تشرين. ولا أعلم إلى أين ستفضي هذه التجربة، لكنني أعلم أنني أعيش الآن في المعمعة أو المتاهة اللبنانية، وما أمتلكه هو تجربتي التي تشكل الأرض التي أقف عليها، وأقيّم الأمور والأوضاع انطلاقا منها. وفي الحقيقة تغيرت نظرتي إلى فلسطينيتي، ولم تعد الهوية أو الهويات مدار اهتمامي ومشاغلي وتفكيري، بل الحوادث والأوضاع المختلفة وسياقاتها الوضعية. وخفتت حدة غضبي من مواقف بعض اللبنانيين من الفلسطينيين ونظرتهم إليهم. وأيقنتُ أن تجربة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان كانت مرهقة للبنانيين والفلسطينيين، وتركَتُها مؤلمة وقاسية على الطرفين معاً. وهذا ما كنت أرفضه قبل 17 تشرين اللبناني. وها أنا الآن على مسافة أظنها متوازنة من الانتماءات والهويات وصراعاتها، موقنة أنها معقّدة ومتعبة في لبنان، على عكس حالها في الأردن الذي عشت فيه مديداً، وأعرفه معرفة وافية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024