حَمَلُ إعادة الإعمار الوديع ومأساة لبنان ووسط بيروت

محمد أبي سمرا

الجمعة 2020/02/14

يكاد مشروع إعادة إعمار وسط مدينة بيروت في مساره ومصيره، أن يكون مرآة لمأساة لبنان ما بعد حروبه الأهلية- الإقليمية (1975-1990)، وللدراما الحريرية "السياسية" التي كان لها سهمها في المأساة اللبنانية ما بعد الحرب (1992-2020)، ونعيش اليوم أقسى فصولها.

عالم الحريرية الكرتوني
فرفيق الحريري، ملتزم إعمار وسط بيروت ولبنان ما بعد الحرب، بنى أحلامه الزاهية وأحلام لبنانه المنشودة على وعود السلام المقبلة على الشرق الأوسط في تسعينات القرن العشرين، فاستثمر في تلك الوعود: إنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، وإخراج سوريا الأسد من لبنان، وإسرائيل من جنوبه المحتل، فتنتهي بذلك مقاومة "حزب الله" الذي أنشأته وموّلته الجمهورية الإسلامية الخمينية، وأدارته بالتشارك والتنازع مع سوريا الأسد.

لكن الحريرية اتّبعت تقيّة سياسية، فكتمت أحلامها بالسلام الموعود والمرغوب، وتبنّت، أقله لفظياً، عروبة أسدية منتصرة في لبنان الحرب وما بعدها، وراحت في السِّرِّ تنتظر وعود السلام. وأنيط بسوريا الأسد إدارة لبنان والتلاعب الأمني والسياسي بجماعاته، بعد تحوله، أقله منذ العام 1973، المسرح الخلفي الوحيد للحرب العربية الإسرائيلية الملبننة. ولم تكن حروبه الأهلية إلا حروباً بالوكالة عن تلك الحرب الإقليمية المتناسلة. واللبنانيون لم يخرجوا من حروبهم إلا جماعات محطمة: لبنانيّة مسيحية مغلوبة ومحطمة، وعروبية أسدية الولاء طوعاً أو مرغمة، وخمينيّة حربية، جهازية وسرية.

وهكذا كان على الحريرية أن تنتظر بتقيّتها سلام الشرق الأوسط الموعود في التسعينات، مستعيدةً الأغاني والأهازيج اللبنانية البائتة والخاوية، عن دور لبنان وأمجاده في زمن ما قبل حروبه، معتبرةً أنها الكفيلة مع "شطارة" اللبنانيين بأن تستعيد ذلك الدور الزاهي القديم للبنان. وذلك بقفزة أرنب فوق تلك الحروب، وتجاوزها ومحوها، كأنها لم تكن.

واستعادت الحريرية تلك الأغاني والأهازيج، فابتذلتها فوق ما كانت فولكلورية، وأنشدتها في إعادة إعمار وسط بيروت، درّة تاج دعايتها وعالمها شبه الكرتوني، أو المستوحى من أفلام الكرتون، فراحت تقول وتردد: بيروت مدينة عريقة للمستقبل، ودقائقَ تفصلها عن المطار والمرفأ، ومثلها عن الجبل، وثلج صنين مطلٌ على واجهاتها البحرية.

سراديب الخمينيّة والأسد
هذا فيما كان الخمينيّون في لبنان يحفرون الخنادق والسراديب الحربية في جبل صافي أو الريحان جنوباً. وكان ضابط مخابرات الأسد يأمر وينهي في بيروت وعنجر، فينتخب نواب البرلمان ورؤساء الجمهورية ويعيّن الوزراء، ويروِّع كل من يخالف له أمراً في لبنان "وحدة المسار والمصير مع سوريا الأسد". وياما كان ضابط المخابرات ذاك يغفو ضجراً في حضور زواره اللبنانيين الزاحفين إلى مقرّه الخلفي في عنجر البقاعية، فيهلِّلون ويكبرون باسم سيده في دمشق، لينالوا حظوته ورضاه، فيثبِّتُهم في مناصبهم، أو يغدق عليهم المناصب في ديارهم المصادرة.

أما رفيق الحريري، حَمَلُ إعمار لبنان الوديع، فيبني ويعمر وينشئ البنى التحتية، ويثبّتُ سعر صرف الليرة اللبنانية، بعد انهيارها إلى الحضيض في نهايات الحرب، ويراكم الديون والفوائد بالدولار على الخزينة، ويرفع سريعاً وأضعافاً رواتب موظفي القطاع العام، ويغدق المال العام على المهجرين لإخراجهم من وادي أبو جميل في وسط بيروت، وادي الشقاء الذي سُمي وادي الذهب لكثرة ما أغدق على مهجريه من بطانة وموالي الثنائي الشيعي، الأملي والخميني. وهذا كله إضافة إلى رشوته ما تبقى من أمراء ميليشيات الحرب، أو توزيعه الريوع عليهم، فيما هم يطيعون أسد سوريا، ويأتمرون بأمر ضابط مخابراته الحنون عليهم كالأم الرؤوم، ويرعاهم بجفون العيون.

أما الحريري فيستقبل السياح الذين يتدفقون إلى بيروت وبلد الأرز، وفي طليعتهم الخليجيون، ويستعمل طائرته الخاصة في جولاته على العواصم العالمية ولقاءاته الدولية باسم بلد الأرز الناهض من حروبه، لكن وزيراً لخارجية سوريا الأسد أيضاً.

ولما استكمل الحزب الخميني تجهيزاته الحربية في لبنان ، ووسّع مقاومته في الجنوب، بادرته إسرائيل بحربين: "تصفية الحساب" في 1993، و"عناقيد الغضب" في 1996، فكلفا لبنان مئات ملايين الدولارت. وحين حاول الحريري إرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب بعد الحرب الأولى (1993)، سرعان ما عزف عن محاولته طائعاً "وحدة المسار والمصير الأسدية"، فأُعفي من تهمة خدمة العدو الإسرائيلي، التي بادر إلى التكفير عنها في حرب "عناقيد الغضب"، وأخذَ يتغنى بأن علاقاته الدولية الواسعة مكّنته من صوغ "اتفاق نيسان" الذي شرّع المقاومة الخمينية -الأسدية في لبنان ومنه.

لكن هذا كله لم ينفعه في شيء. فظلت علاقاته الدولية مصدر ريبة دائمة للخمينية والأسدية. ولا نفعته المؤتمرات الدولية لمساعدة لبنان ومراكمة الديون وفوائدها على المالية العامة. ونكايةً به وبمشروعه لإعادة إعمار وسط بيروت، عَيّن حافظ الأسد إميل لحود رئيساً للجمهورية سنة 1998، لتبدأ بذلك الدراما الحريرية، وصوغَ ما سُمي "حلف الأقليات"، والحملات الإعلامية المخابراتية الواسعة بإدارة جميل السيد ضدها. وحين عزمت إسرائيل على الانسحاب العسكري من الشريط الحدودي الجنوبي المحتل، اعتبرت المقاومة الخمينية وسوريا الأسد عزمها ذاك مؤامرة على لبنان والعروبة والمقاومة، ولم تبرئ أجهزتهما الإعلامية المخابراتية الحريري من تلك المؤامرة. وأكملت إسرائيل مؤامراتها، فأجلتْ جيشها عن لبنان في العام 2000، وبدأ بذلك التقويم الخميني اللبناني.

ومنذ العام 2000 وموت حافظ الأسد، تصاعدت المعارضة اللبنانية المسيحية للاحتلال السوري للبنان. وحصلت مصالحة الجبل بين البطريرك الماروني مار نصرالله صفير والزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الذي بدأ يميل إلى الخروج على الطاعة الأسدية لبشار الأسد، الذي أراد تمديد ولاية إميل لحود الرئاسية، وقال للحريري في لقائهما الأخير عام 2004: "إذا لم تمدّد للحود سأكسّر لبنان على رأسك ورأس وليد جنبلاط".

حياة وسط بيروت
وفي 14 شباط 2005 انجلى المشهد الخميني - الأسدي في لبنان عن تفجير موكب رفيق الحريري على طرف الواجهة البحرية لمشروع حياته في وسط مدينة بيروت، ودُفن في خلاء ساحة الشهداء قرب مسجد محمد الأمين.

غيّرت الحادثة الكبيرة وموكب الدفن الكبير صورة رفيق الحريري، وصورة مشروعه العمراني، العقاري والسياحي، وشبه الصّنميّ، حتى تفجير موكبه.

بعد دفنه مباشرة وطوال شهر، خيّم في الساحة قرب المدفن شبان وشابات لبنانيون. بعضهم غرباء تماماً عن السياسة وزعمائها وولاءاتها الأهلية والحزبية المتجذرة. بعضهم الآخر خرجوا أو ابتعدوا منها، تناسوها وأجلّوها.

من الغربة عن السياسة، ومن الخروج عن زعمائها وولاءاتها، وُلِد طيف سياسي جديد لرفيق الحريري، وطني لبناني جامع. طيفٌ غريب عن رفيق الحريري السابق على اغتياله، بل إن الطيف السياسي الجديد ذاك احتوى صورة الرجل السابقة، غيّرها ومنحها معنىً أو بعداً جديداً، لم يكن حاضراً فيها.

وسط بيروت بدوره، أخرجته الحادثة وموكب الدفن والتخييم قرب المدفن، من صورته العمرانية العقارية، السياحية وشبه الصّنميّة، ومنحته حيوية جديدة متدفقة، ورمزية سياسية وطنية جامعة.

وفي 8 آذار 2005، خرجت جماعات الخمينية - الأسدية في لبنان من مناطقها، وسارت حشوداً هادرة إلى ساحة رياض الصلح في وسط بيروت، محاولةً ابتلاع ما يحدث في ساحة الشهداء القريبة، أو إزاحته جانباً، تبديده وطمره تحت هالات الرعب المنبعثة من الحشود الهادرة.

بعد أيام ستة، أي في 14 آذار 2005، هبّ لبنان غير الخميني - الأسدي، فملأ بحشوده المليونية الملونة وسط بيروت كله. وعلى منوال شبان وشابات المخيم، خرجت حشود 14 آذار من السياسة بوصفها زعاماتٍ وولاءاتٍ وعصبيات أهلية، أو سنحت عنها وتناستها في احتشادها الوطني الجامع.

استئنافاً لـ8 آذار، وثأراً من 14 آذار، استؤنفت التفجيرات والاغتيالات، فأشاعت الرعب في لبنان، وفي بيروت خصوصاً. لم يكفِ ذلك، فاستُدرجت إسرائيل إلى حربٍ مدمرة للبنان، وخرجت منها الخمينية - الأسدية بنصرٍ إلهي، لم يكفِ بدوره للثأر من 14 آذار.

... موته والخديعة العونيّة
وكانت العونيّة قد اكتملت فصولاً، بوصفها خديعة وضغينة "سياسية" دائمة ومستمرة. فانقلبت بضغينتها على الخارجين على ولائهم لنظام الأسد، وخصوصاً على الحريرية ومشروع إعمارها وسط بيروت. وأطلقت العونية أيضاً عداوتها الأخوية للقوات اللبنانية. ثم حالفت الخمينية - الأسدية، وشراذم المستمرين على ولائهم الأسدي في لبنان. وشاركت هؤلاء جميعاً في احتلال وسط بيروت قرابة سنتين، ثأراً من الحريرية وطيفها اللبناني الجديد. ولم ينتهِ ذلك الاحتلال إلا بخنق ذلك الوسط وسحله، وإعادته جزيرة خاوية مقفرة، منها انطلقت زُمر الأسد والخمينية المسلحة إلى احتلال بيروت كلها في 7 أيار 2008.

استكمالاً أو توكيداً لخواء تلك الجزيرة وإقفارها، تذرع رئيس مجلس النواب الأبدي بمبنى مجلسه في ساحة النجمة، فجعل قلب وسط بيروت معسكراً مقفلاً لرهطه من حرس البرلمان. فلم يبقَ في ذلك القلب - المعسكر متجراً أو مقهىً أو مطعماً يفتح أبوابه، وتحول مبانيَ صنميّة أو صحراء عمرانيّة. لذا بادرت شركة "سوليدير" إلى التسريع في افتتاح أسواق بيروت خلف شارع ويغان. لكن تلك الأسواق لم تعمّر طويلاً. فها هي اليوم  تستسلم لموتها السريري، لتكتمل الدراما الحريرية، فيما يعيش لبنان أقسى فصول مأساته.

هوامش لبنان الحيّة
من قلب هذه المأساة ولدت انتفاضة 17 تشرين الأول 2019: على العونية وجبران باسيلها، على الحريرية ووريثها، على نبيه بري ورهطه ومجلسه، على وليد جنبلاط واشتراكيته الإقطاعية، على سمير جعجع وقواته، وضمناً ومواربة - خوفاً ورعباً من السلاح المقدس - على حسن نصرالله وخمينيته المسلحة بالصواريخ.

جيل جديد من شبان وشابات لبنانيين باشروا هذه الانتفاضة. كثرة منهم باشرت السياسة بتظاهرات 2015 المطلبية في وسط بيروت تحت شعار "كلن يعني كلن". آخرون غرباء عن السياسة أو يائسون منها.

وانتفاضة 17 تشرين ومخيماتها في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، ومجموعاتها الكثيرة المتنوعة والمتباينة في تكوينها ومساراتها وتوجهاتها وبعض ولاءاتها الضمنية أو المكتومة، باشرت السياسة من طموح علني ضداً أو نقضاً للسياسة القطيعيّة اللبنانية التي استفحلت وبلغت ذروتها ما بعد انتخاب جنرال الخديعة رئيساً للجمهورية، والانتخابات النيابية الأخيرة في العام 2018، والتسوية الحريرية - الباسيلية للنهب برعاية حزب السلاح والحرب الخميني. وهي التسوية التي أدت إلى الفصل الأخير من الدراما الحريرية.

لكن هذه الانتفاضة شاركت فيها، على نحو متقطع، فئات ومجموعات متفاوتة، حريرية وقواتية، إلى مجموعات هامشية من جمهور أمل وحزب الله.

والأرجح أن من بواعث هذه الانتفاضة بلوغ النهب ذروةً غير مسبوقة، ونضوب الريوع التي كانت توزِّعها الغرضيات الحزبية وزعاماتها على مواليها وأتباعها. وكشفت الانتفاضة أن النهب والريوع، وسائر السياسات والهندسات المالية والاقتصادية منذ تسعينات القرن العشرين، أدت إلى إفلاس الدولة اللبنانية، ومأساة لبنان الراهنة.

وأخيراً لم يبقَ في الانتفاضة سوى مجموعات شاباتها وشبانها. وقد يكونون في غالبيتهم من الفئات الوسطى الحرّة، القلقة والطموحة، والغريبة عن السياسة بمعناها اللبناني: الولاءات القطيعيّة للغرضيات الأهلية والحزبية. وهم في هذا من هوامش لبنان النضرة والحيّة. أنصافهم تعيش في هذه الهوامش، وأنصافهم الأخرى هناك، خارج لبنان، في ديار الله التي تضيق يوماً بعد يوم.

أما وسط مدينة بيروت الذي اقتطعت جدران معسكر مجلس النواب مساحة أوسع منه، فاكتملت مأساته مع مأساة لبنان المستمرة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024