منازل الجنوبيين المهجورة.. والعتمة الموحشة في مار مخايل والمنارة

قاسم مرواني

السبت 2021/09/11
منذ وعينا الأول تعودنا المنازل الفارغة في الجنوب. يبوت تفرغ مع انتهاء فصول الصيف وعودة المغترببن إلى مغترباتهم، والمقيمين في بيروت وضواحيها إلى إقامتهم فيها. في أيلول تبدأ أسراب الطيور المهاجرة عبورها في سماء قرى جنوبية، لطالما كانت أرض مهاجرين شدهم نداء المدينة، وأرض نازحين هجّرتهم الحروب المتتالية والاحتلال الاسرائيلي.

فيلات النواطير
وكلما كان الجنوبيون يهاجرون ويغتربون وينزحون كان العمران يكتسح الخلاءات، والمنازل تزداد باطراد. وخصوصاً تلك الفيلات والقصور التي يبنيها أثرياء المغتربين، فتبقى فارغة على روؤس التلال، وينزل في غرفة صغيرة في حديقتها ناطور مع عائلته، من الجنسية السورية عادة. وأصحاب القصور والفيلات يزورونها مرة  في العام، أو قد لا يزورنها قط. ولم تتوقف المنازل والقصور والفيلات عن التكاثر، كأنها تكني عن قول أصحابها المهاجرين: "هنا جذورنا، عائدون يوماً ما".

ولكنهم غالباً ما يكتمون أو لا يمتلكون العبارة للقول: نحن هناك في مغترباتنا الإفريقية في حال غياب، وحياتنا معلقة أو موقوفة هناك.

بناة الفيلات الغائبون
لا حياة في إفريقيا، أو لنكن أكثر دقة، لا حياة تناسب اللبنانيين في إفريقيا.
يهاجر الجنوبيون إليها بغرض العمل والكسب، وينتظرون حلول فصول الصيف بفارغ الصبر، كي يحظوا بين أهلهم هنا ببعض الرفاهية المفقودة أو التي لا يفقهون لغتها هناك. فـ"الموت بين الأهل نعاس"، كتب الروائي اللبناني الراحل جبور الدويهي.

وهم يعودون أيضاً كي يحظون بعروس ويتزوجونها هنا بين الأهل. وحين ينجبون أبناءهم هناك، يصرون على تربيتهم وتعليمهم هنا في لبنان. وأحياناً تبقى الزوجات هنا مع الأولاد ويهاجر الرجال.

ويرسل علي وحسين وعباس أموالاً شهرية إلى ذويهم هنا، بغرض بناء منازل. يشتري كل منهم قطعة أرض ويبني عليها بناءً من طبقات ثلاث: الأرضية محال تجارية بغرض تأجيرها في المستقبل. وتضاف هذه الأبنية إلى البيوت المهجورة في الجنوب، الصامتة على أطراف القرى. وبعضها مات أصحابها قبل أن يكتمل بناؤها، وبقيت كالمنازل المسكونة بالأشباح، تنتظر منذ سنوات من يتابع تشييدها.

منازل الانتظار وقبوره
خلال هجرتهم يمنون النفس دائماً بأمل الرجوع يوماً ما. ومن سافر من الجنوبيين إلى الولايات المتحدة، كندا، أستراليا، أو أوروبا، تقتله الغربة هناك. نمط الحياة الغربية، التقديمات التي يوفرها، الحياة الجيدة التي يحظى بها الأولاد، التعليم والطبابة.. يطويها حلم العودة الذي تشتد صعوبة تحقيقه عاماً بعد عام. وأحياناً يعود بهذا المغترب أو بذاك أولاده مسجى في نعش، ليدفن في أرض الوطن، بناء على وصيته.

أما من هاجر إلى إفريقيا -الخزان الأكبر للجنوبيين- فيعود دائماً، ربما بسبب صعوبة العيش في القارة السمراء والبيئة التي يرونها غير مناسبة لتربية أولادهم. وحينما تمشي في طرق بلدات الجنوب خريفاً، ترى كثرة من المنازل والقليل من السكان. منازل يقتلها ملل انتظار العائدين إليها.

عتمة وشقق مطفأة
كنا نقف على كورنيش المنارة ليلاً، ندير ظهورنا للبحر ونتفرج على الأبنية المقابلة لنا. على الطرف الآخر للشارع، الكهرباء مقطوعة. أنوار الكورنيش مطفأة. نحاول أن نحصي الشقق المسكونة في البنايات الغارقة في العتمة. الشقق المضاءة مسكونة، أما المطفأة فأغلب الظن أن سكانها غير موجودين في البلد. ثلاث طوابق مسكونة من أصل ستة عشر طابقاً في أحد الأبنية. وفي المبنى المجاور هناك حوالى عشرين طابق، كل منها مقسم إلى شقتين، كلها مطفأة باستثناء شقق خمس.

الهجرة والفقدان
وتسألني لمياء عن الارتباطات العاطفية. أجيبها أن العلاقات صعبة هذه الأيام. الجميع يريد أن يسافر أو يهاجر، لكن لا أحد يعرف إلى أين. من تقابلينه اليوم لا تعرفين أين سيكون مشرداً غداً، في أي بلد أوروبي.

وكنا خمسة أصدقاء على درج الجميزة، الممتد من الأشرفية إلى شارع مار مخايل. الجميع يسكنون أو يعملون في الشارع ذاته. طبيعي أن يأخذ انفجار الرابع من آب الجزء الأكبر من الحديث. كل شخص منهم فقد في الانفجار شخصاً يعرفه. يستعيدون ذكريات ذلك اليوم، كما بقينا نحن الجنوبيين لسنوات نستذكر حرب تموز. الدمار الذي أحدثته والأشخاص الذين فقدناهم.
تحطم منزل مارك، ومنزل ماري كذلك ومكان عملها، ولمياء أصيبت بجروح لن تندمل قريباً.

أحزان الراحلين
لمارك كان انفجار الرابع من آب الضربة القاضية. يلملم ما تبقى له في البلاد ويرحل إلى كندا. ماري ذاهبة إلى فرنسا. ولمياء ستأخذ ابنتها الصغيرة وتهاجر.

وماذا ستفعلين ببيتك يا لمياء؟ يبقى فارغاً تقول متحسرة، وتضيف أنها عادت إلى لبنان بعد غياب دام سنوات عشر. كانت تعمل في الخارج عملاً جيداً ولديها جنسية أوروبية، ومع ذلك عادت. تحدثني عن حبها للبلاد، واستعدادها للتضحية في سبيلها. لكنها ما عادت تحتمل هذه الوحشة، ولن تحمل ابنتها وزر ذلك كله.

قلت لها: في المرة السابقة كنت تعملين في الخليج العربي. واللبنانيون يعودون دائماً من الخليج. وهذه المرة لن تعودي. وتحزن لمياء وتظل صامتة.

وحشة الأماكن
وكنت قادراً على سماع وقع أقدامي بينما أسير في شارع مار مخايل عائداً. أحاول السير في العتمة حذراً كي لا أتعثر بالحفر أو الأنقاض التي خلفها انفجار الرابع من آب وورش الإصلاحات. مقاه وحانات مهجورة، أبنية سوداء مطفأة، على الأرجح هجرها سكانها.

هؤلاء ليسوا كالجنوبيين. أفريقيا ليست هدفاً لهم ولا ملاذاً. يغادرون إلى الولايات المتحدة وأوروبا أو كندا، وكمثل لمياء، لن يعودوا.

وعلى درج أحد المنازل في القرية الجنوبية، يجلس عمال خمسة من الجنسية السورية، ينظرون إلى الساحة الفارغة. هرة تعبر وسطها بتمهل شديد واطمئنان. بيوت صامتة تحيط بالساحة. ترجّع غرفها الفارغة صدى قرعك على أبوابها. يرتفع مسجد القرية آذان المغرب. يسير العمال السوريون بصمت بين المنازل المهجورة عائدين إلى مساكنهم، وحيدين تماماً.

وكان الشاعر حسن عبدالله قد كتب منذ زمان بعيد: وحشة في القرى/ورصاص بعيد/ولم ينم الناس خوفاً.
وما الفرق بين الوحشة والخوف؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024