ديوانيّة عرب خلدة و"شيخهم" الجريح بغارة زمرة حزب الله

محمد أبي سمرا - نبيلة غصين

الأحد 2020/09/20
كان الحرُّ قيظاً والكهرباء مقطوعة، لمّا وصلنا في عتمة ذلك المساء إلى ما ظننته مدخل بنايةٍ جانبي، مدعوين إلى جلسةٍ يلتئم فيها شمل جماعةٍ من عرب خلدة، في ما يسمونه ديوانيات للقاءاتهم وسهراتهم اليومية. وكان صعباً تمييز أجسام ووجوه مَن سمعنا أصوات ترحيبهم بوصولنا، إلا تمييزاً شبحياً في عتمة تهتز في جنباتها بؤر من أضواء الهواتف الخليوية المحمولة. الأصوات والكلمات تضفي عليها العتمةُ وظلال الأجسام الوجوه وتناثر بؤر الضوء فيها، مزيداً من الفوضى الشبحيّة.

وتبيّنا أن ما استُقبلنا فيه ليس مدخل بناية، بل بهواً جانبياً في الطبقة الأرضية في البناية، وينتهي جانبه الأيمن وخلفيّته بواجهتين من الزجاج والألمنيوم المتحرك، فتنفتح فيهما نوافذ تطلُّ على أشباح شجرات خضراء في فسحة أرضٍ خلاء خفيضة قرب البناية. وفي وسط البهو منقل نحاسي، أنيق ومشغول. وتخيّلتُ بصيص جمر خافت في طبقة المنقل التحتيّة، فيسخّن الجمرُ كومةَ رماد تحوط إبريقين نحاسيين، أنيقين ومشغولين، تغلي فيهما بطيئاً بطيئاً وتتخمر تلك القهوة العربية، الصافية السواد والخفيضة السخونة، كمرارتها الخفيفة، اللذيذة والفريدة الرائحة والطعم، وقد تَستحضرُ جملةً قديمة لمحمود درويش: "رائحة البن جغرافيا"، قبل قول الشاعر الفلسطيني الراحل: "بيروت خيمتنا الأخيرة"، عقب ترحيله مع ياسر عرفات ومجموعات من مقاتليه من بيروت صيف 1982.

انقلاب الولاء واللبنانية المثلومة
وفي جلسة مسائية سبقت بنحو ساعة وصولنا إلى ذاك البهو - الديوانية، روى لنا "الشيخ" عمر غصن ما يُستشفُّ منه أن الاجتياح العسكري الإسرائيلي للبنان وترحيل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في ذلك الصيف، أذِنا بمنعطف كبير ومشهود في حياة عرب خلدة وأحوالهم. وشأنهم في هذا شأن لبنان وجماعاته وميليشياته الحربية كلها: تغيّر وتبدّل ألمّا بأحوالها وحروبها على نحو عاصف، بعد تلك الحملة العسكرية العاصفة على المنظمات الفلسطينية في لبنان.

فقبل تلك الحملة، كان عرب خلدة المسلمون السنّة منضوين وموزعين في ولاءاتهم - تحت عصبياتهم العشائرية القديمة والمتوارثة مديداً والحيّة في صدورهم واجتماعهم وعلاقاتهم ونزاعاتهم - بين المنظمات العسكرية الفلسطينية، وأحزاب الحركة الوطنية اللبنانية اليسارية والعروبية. وكان لمنظمة "فتح" بانتشارها وقوتها وفوضاها، وللحزب التقدمي الاشتراكي الجنبلاطي الدرزي، الولاء الأبرز بينهم، من دون أن تُعدَم منظمة "المرابطون" البيروتية والسنية حضورها بين رجالهم وشبانهم. وكانت ولاءاتهم هذه، قد توسّعت وبرزت في زمن الحرب (1975 - 1990) على حساب ولاء شطرٍ كبير منهم لزعامة المير مجيد الإرسلانية الدرزية التقليدية، المتقادمة والذاوية، في عاليه وساحلها في الشويفات وخلدة التي كان قصر المير مجيد على ساحليها، وورثه عنه نجله المير طلال. وكانت الحرب الأهلية قد قوّضت أركان الزعامة الإرسلانية غير المشاركة في الحرب، لصالح الزعامة الدرزية الجنبلاطية المحاربة بزعامة كمال جنبلاط ووريثه وليد جنبلاط.

عرب المسلخ في خلدة
ومن العلامات والوقائع الحاسمة الدلالة على قوة الزعامة الجنبلاطية الحزبية المحاربة، إيواؤها مهجّري أبناء عشائر عرب المسلخ السنّة الموالين لها، في مسابح ومنتجعات خلدة المهجورة حول قصر المير مجيد ووريثه طلال إرسلان، بعدما أجْلتهم في حرب السنتين (1975-1976) القواتُ الكتائبية المسيحية من منطقة الكرنتينا، قرب المسلخ، في بيروت الشرقية.

وبعد الحرب الأهلية تملّكَ بعض من مهجري عرب المسلخ قطع أرض، أو اشتروا بتقديمات وزارة المهجرين المالية شققاً سكنية على تلال عمران خلدة البري، الناهض والمتوسع، فاندمجوا في مجتمع أقرانهم عرب خلدة العشائري الذي لا يكفُّ أهله عن التشديد على حيازتهم الجنسية اللبنانية أباً عن جد، فيبرزون إخراجات قيد عائلية مصورة على هواتفهم الخليوية، يثبت بعضها أن آباءهم وأجدادهم لبنانيون وولدوا في خلدة في ثمانينات القرن التاسع عشر، قبل إعلان دولة لبنان الكبير. وهم في هذا يصرون بحرقةٍ يكابدونها، على نفي التهم الشائعة والقائلة بأنهم ليسوا لبنانيين أو مثلومي اللبنانية، وطارئون على خلدة، بحجة اجتماعهم العشائري الذي يدرجهم في خانة البداوة من العرب الرعاة الرّحل، غير المتملكين ولا المستقرين المتوطنين، بل من مقتطعي أرضٍ مشاع أو المستولين على أرض خاصة أهملها مالكوها، فأقاموا عليها عمرانهم. ويشمل إصرارهم تمييزهم أنفسهم عن مخيمات "النور" أو "الغجر" التي كانت قائمة في خلدة قبل شق الأوتوستراد السريع بين بيروت وصيدا في التسعينات. وكذلك عن عرب المسلخ المهجرين الذين كان شطر منهم لا يزال يحمل ما يسمى قبل الحرب في لبنان وثائق تفيد أن جنسيتهم "قيد الدرس" وحازوا الجنسية اللبنانية حديثاً في موجات التجنيس التي حصلت في عهد "الوصاية" السورية على لبنان، وأثارت جدلاً واسعاً في المجتمع المسيحي المهزوم في الحرب وفي عهد تلك الوصاية.

وكانت حملة صيف 1982 العسكرية الإسرائيلية قد حملت الموالين من عرب خلدة لحركة فتح الفلسطينية الراحلة، على موالاة الحزبية الدرزية الجنبلاطية التي استمرت في حروب الثمانينات الملبننة بزعامة سورية أسدية.

هجرة وانتخابات وعقارات
الظاهرة الأبرز الناجمة عن الحملة الإسرائيلية في مجتمعهم، كانت - حسب "الشيخ" عمر غصن - موجات هجرة شطر واسع من أبناء عشائر العرب المتلاحقة للعمل في بلدان الخليج العربية، وخصوصاً الإمارات. ومن حصّل منهم مبالغ مالية هناك، عاد إلى دياره في خلدة، فاشترى أرضاً أو شارك ملاكاً عقاريين في تشييد بنايات، والسكن في بعض شققها وتأجير بعضها الآخر أو بيعها.

ولا يتكتم "الشيخ" على ولائه للحزب التقدمي الإشتراكي الجنبلاطي الدرزي، لكنه يقصره على ولاء انتخابي قائلاً: "أنا مسؤول الدائرة الانتخابية للحزب في منطقة خلدة، ويبلغ عدد ناخبيها العرب 1350 صوتاً". وهو شدّد على أنه ليس حزبياً في عمله هذا، بل "لدي علاقات بالأحزاب كلها، ولست منغلقاً على ما يشاع عني بأنني داعشي" في الصحيفة التي سماها. وهي تصدر في بيروت وتوالي حزب الله وتنطق باسمه مواربة، وتتستر على طائفيتها بلغة علمانية يسارية، وتهدّد بجز أعناق من لا يجاري أو يوالي من اللبنانيين تستّرها المسموم على خمينيتها الإيرانية.

تستّر "أمني"
لكن لقاءنا "الشيخ" عمر لم يخلُ من التستر "الأمني". فهو ضرب لنا موعداً للقائه، أجّلَ إفشاء مكانه إلى ما قبل وقتٍ قليل من وصولنا إليه. وأرسل شاباً على دراجة نارية سار بها أمام سيارتنا في اتجاه بنايتين قديمتين متقابلتين على طريق خلدة الساحلي القديم، حيث انتظرْنا دقائق وصوله إلى شقة في طبقة أرضية من إحدى البنايتين المتشابهتين. وباعثه على تستره هذا هو بروز اسمه في وسائل الإعلام عقب حادثة خلدة الدموية بين عربها السنة، وعلي شبلي وزمرته الشيعية المسلحة المستقوية بسطوة حزب الله. والزمرة هذه أغارت في آخر أيام عاشوراء المنصرمة، قبل نحو أقل من شهر، على فتية وشبان من العرب أمام سنتر شبلي وسوبر ماركت رمال في خلدة. ويملك شبلي وإخوته هذا المبنى التجاري الكبير، بعدما ورثوه عن والدهم. وكان باعثهم على غارتهم المسلحة بسيارات دفع رباعي كثيرة، إقدام أولئك الفتية والشبان على نزع لافتة عاشورائية عليها صورة حسن نصرالله، والمتهم باغتيال رفيق الحريري، سليم عياش. فقُتل في الغارة أمام المبنى التجاري الكبير الفتى حسن زاهر غصن وجُرح ثمانية آخرون من الفتيان العرب و"الشيخ" عمر نفسه، إلى مقتل سوريّ نُسي اسمه. وهذا ما حمل مسلحي عرب خلدة على الثأر والانتقام، فأحرقوا المبنى الكبير، واستمروا في إطلاق نيران أسلحتهم الرشاشة ليلة كاملة غضباً في المنطقة.

وقد يكون خوف "الشيخ" عمر من بواعث تستره "الأمني". فقد أشاع إعلام "الممانعة" أن دوره بارز في تحريض عرب خلدة ضد حزب الله، وتحريضه هو ما حمل فتيانهم على نزع اللافتات العاشورائية، وعلى هبّتهم الثأرية الغاضبة في تلك الليلة، بعد سقوط "الشيخ" جريحاً. وعندما التقيناه كان معصوب اليد جراء جرحه البليغ ومكوثه أياماً في مستشفى المقاصد التي قال إن شباناً من الطريق الجديدة السنّة وسواهم من أبناء عشائر العرب في عكار والبقاع، زاروه تضامناً وإعراباً عن غضبهم ونصرة لعرب خلدة.
(يتبع)

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024