اعتكاف القضاة وإعادة الاعتبار للقضاء المُهان

جنى الدهيبي

الأحد 2019/06/02

في وقتٍ يفور فيه البلد غليانًا شعبيًا من النقمة على الفساد المستشري في القضاء والأمن وسلطات الدولة، لا سيما بعد "فضيحة" الحكم الصادر في قضية الممثل المسرحي زياد عيتاني، الذي قضى إلى تبرئة كلّ من المقدم سوزان الحاج والمقرصن إيلي غبش، من فبركة ملف عمالته، يستمرّ جزء كبير من قضاة لبنان بالمرابطة على اعتكافهم، الذي من المتوقع أن يتحدد مصيره، في 7 حزيران المقبل، موعد انعقاد جمعية القضاة العمومية، للبحث في الخطوات التي ينوي القضاة المعتكفون اتخاذها.

معركة كسر العظم
لا شكّ أنّ قضاة لبنان المعتكفين في موقفٍ لا يُحسدون عليه، خصوصًا بعد أن أخذت معركتهم طابع "كسر العظم"، وهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا المضي في معركة اعتكافهم الصعبة، أو الرجوع عن الاعتكاف إلى أقواس المحاكم في قصور العدل، مقابل التخلي عن مطالبهم.

ثمّة إصرارٌ واضحٌ على فكّ هذا الاعتكاف، وربما وصولًا إلى طيّ صفحة مطالبه. بدءًا من رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي لا يفوّت فرصة الدفع والتصريح أمام زواره برغبته في رجوع القضاة عن اعتكافهم، الذي يضعه في خانة "ضرب هيبة القضاء" على أبواب العطلة القضائية، كما يعتبر أيضًا أنّ مشروع موازنة 2019، أبقى على الكثير من المكتسبات لهم، وأنّ ذلك ينفي أسباب استمرار الحركة الاعتراضية... مرورًا بمواقف الحكومة ووزير العدل ومجلس القضاء الأعلى ونقابة المحامين وجزء آخر من القضاة غير المعتكفين، وكلّهم رافضين للاعتكاف.

قبل يومين، أصدر مجلس القضاء الأعلى تعميمًا داعيًا فيه القضاة إلى متابعة عملهم كالمعتاد، وأن يتحمل كلّ قاضٍ معتكفٍ مسؤوليته عن موقفه. بدا المجلس في تعميمه الصادر عن اجتماعٍ عقده مع الرؤساء الأول الاستئنافيين، يائسًا وغاضبًا من إفلاته لزمام الأمور، واستمرار القضاة باعتكافهم غير آبهين لموقفه الرافض له، معتبرًا أنّ "الاعتكاف حصل مع تغييب لمرجعية مجلس القضاء الاعلى‏". هذا المجلس المُعيّن من السلطة التنفيذية، يتعاطى معه جزء كبير من القضاة المعتكفين على هذا الأساس، بوصفه طرفًا وليس مرجعًا حاضنًا لهم ولمطالبهم.

يبرر مجلس القضاء موقفه الرافض من الاعتكاف، بعد إقرار مشروع الموازنة العامة في مجلس الوزراء، بـ "أن المتابعات مع الجهات المعنية كانت إيجابية في المحافظة على صندوق التعاضد ‏وضماناته، والمقومات اللازمة في استمراره لأداء دوره الضامن على أكمل وجه، وفي المستويات ‏كافة ومنها الطبابة والتعليم". في المقابل، بدا جليًا أنّ الثقل الأكبر من معركة القضاة المعتكفين، تتوجه سهامها نحو السلطة التنفيذية، باتهامها في انتهاك المادة 5 من قانون القضاء العدلي في مشروع الموازنة، التي توصي بضرورة موافقة مجلس القضاء الأعلى على أيّ تشريعٍ يخصّ القضاة، باعتباره سلطةً قائمةً مستقلة بذاتها. وأنّ الحكومة التي أصدرت مشاريع قوانين تتعلق بالسلطة القضائية، من دون استشارة مجلس القضاء، تناقض بشكلٍ فادحٍ وجوب استشارة هيئة التشريع، ومفاهيم الاستشارات الصادرة عام 2005 في عهد الرئيس فؤاد السنيورة، والمبدأ الدستوري المتمثل بعدم جواز إنقاص تقديمات السلطة القضائية.

لكن، ما الذي يدفع القضاة إلى التصعيد والمضي في معركة اعتكافهم؟

النادي يغرّد وحيدًا
في ظلّ هذا التعقيد بالتضارب القائم بين القضاة المعتكفين والسلطات الرسميّة، ومع إشارة مجلس القضاء الأعلى إلى ضرورة أن يتحمل كلّ قاضٍ معتكفٍ مسؤولية موقفه، وكأنّها تلويح مبطن إلى احتمال اللجوء لتحريك "التفتيش القضائي"، خرج "نادي قضاة لبنان" عن صمته، وعقد لأول مرّة بعد مضي أربعة أسابيع من الاعتكاف ندوةً علنيةً تحت عنوان "استقلالية السلطة القضائية: تحديات وحلول"، السبت 31 أيار 2019، في مبنى نقابة الصحافة في بيروت.

داخل قاعة الندوة، بدا القضاة متحمسون ومندفعون لـ "ندوةٍ هي الأولى من نوعها منذ 50 عامًا"، وفق ما أشار المنظمون، وتأتي بعد عامٍ واحدٍ على تأسيس نادي القضاة في  لبنان، الذي واجه حملة اعتراضٍ واسعة من السلطة السياسية ومجلس القضاء الأعلى الذي شكك بشرعيته. وفي كلمة رئيسة النادي القاضية أماني سلامة، التي اعتذرت فيها من الشعب اللبناني: "نعتذر لأننا تأخرنا في تحقيق استقلاليتنا"، تضع الاعتكاف الثالث الذي ينفذه الجسم القضائي بـ "الإكراه"، بوصفه آخر إمكانيات المواجهة دفاعًا عن العدالة واستقلالية القضاء، وعن قصور العدل التي، وفق قولها، تفتقد الحدّ الأدنى من شروط العمل. 

ذكرت سلامة بأول اعتكافٍ نفذه القضاة في العام 1982، والذي أدّى إلى إنشاء صندوق تعاضد القضاة. وذكّرت بثاني اعتكافٍ في عامي 2017 و2018، الذي كان نتيجته إنشاء "نادي قضاة لبنان". وسألت: "أين نحن من دراسة ماكنزي التي تؤكد صراحة على وجوب أن تترافق عملية مكافحة الفساد مع ايجاد ضمانات اقتصادية وقانونية كافية للقضاة والجذب الاستثمارات؟ وأين نحن من شعارات مكافحة الفساد واستقلالية السلطة القضائية وبناء دولة القانون الحقيقية، التي تقوم على ثوابت لا تتزعزع قوامها قضاء فاعل؟".

شرحت سلامة أسباب القضاة الدافعة إلى الاستمرار في اعتكافهم. فـ"مشروع الموازنة الحالي، الذي يخالف المادة 5 من قانون القضاء العدلي، يقتطع 10 في المئة من مساهمة الدولة في صندوق تعاضد القضاة، و5 في المئة من واردات تطبيق قانون السير، والقانون يمنح القضاء 0.47 في المئة من موازنة الدولة، في حين أنه الجهة التي تؤمن ثالث مدخول لها". ووضعت سلسةً من المطالب كشرطٍ لـ"توقف القضاء عن الاعتذار"، وبغية رجوع القضاة عن اعتكافهم. إذ إنّ المطالب الأساسية، هي في "وضع مهلة زمنية محدّدة للسلطة التشريعية لإقرار قانون استقلالية السلطة القضائية، رفع السرية المصرفية وإطلاق يد القضاء في ملاحقة الفاسدين، استثناء القضاة من مشروع الموازنة الراهن، بموجب نص صريح، وعدم التعرّض لصندوق تعاضد القضاة، انسجاماً مع استشارة هيئة التشريع والاستشارات الصادرة عام 2005".

هذه الندوة التي حاضر فيها إلى جانب القاضية سلامة، المحامي جاد طعمة، وكلمة نقيب المحامين الأسبق عصام كرم، والمدير التنفيذي للمفكرة القانونية نزار صاغية، والقاضي والمحامي السابق منيف حمدان، وممثلة جمعية "كلنا إرادة" ديانا كلاس، وبرز من بين الحاضرين النائب شامل روكز، كرّست مفهوم الحراك القضائي الخارج من عباءة الصمت والعزلة، وهو ما عبّر عنه صاغية بـ"أن من يعلم تقاليد القضاة وتنظيمه، يُدرك الجهود والتحولات الثقافية الكبيرة التي بذلها العديد من القضاة، وفي مقدمتهم مؤسسو النادي، للوصول إلى هذا التحول الكبير". وهذا ما ظهر على الحاضرين من قضاة وحقوقيين وناشطين وممثلي جمعيات، الذين كانوا يصفقون بحرارةٍ واضحةٍ للكلمات، تعبيرًا عن سعادتهم بكسر القضاة لحاجز الصمت والانكفاء عن مخاطبة الشعب اللبناني الذين يحكمون باسمه. لكنّ السؤال الجوهري: هل هذا كافٍ ؟

نادي القضاة.. والثقة بالعدالة
بعد مرور عامٍ كاملٍ على تأسيس "نادي قضاة لبنان" بـ 80 قاضيًا من أصل نحو 500 قاضٍ في لبنان، والذي سعى مجلس ​القضاء​ الأعلى بادئ الأمر، وبالتنسيق مع ​الحكومة​، لعدم توقيع "العلم والخبر"، كان قد وضع أبرز أهدافه العشرة بـ"المساهمة في تحقيق استقلاليّة السُلطة القضائيّة، وترجمة هذه الاستقلاليّة عمليّاً مِن الناحيتين الماديّة والمعنويّة". لكن، ورغم حراكه التقدمي في هذا المجال، ثمّة ما يوحي أنّ النادي الذي يجتمع حاليًا على المطالبة بتحصيل حقوق القضاة، لم يقدّم بعد رؤية منهجية واضحة ومدروسة إلى المرحلة المقبلة من الاعتكاف، ولم يخرج عن إطار المطالب والشعارات الفضفاضة لحشد القضاة المعتكفين، وجذب الشريحة الأوسع من الرأي العام اللبناني، الذي يعبر عن نقمته على كلّ السلطات في لبنان، التنفيذية والتشريعية والقضائية. وإن كانت الشعارات التي يطلقها النادي طموحة يتنمى جميع اللبنانيين بلوغها انطلاقًا من مبدأ أنّ البلد لا يستقيم من دون استقامة قانونية وقضائية، تحقق فيه العدالة وتقبض يدها على الفساد والمفسدين، إلّا أنّها تبقى شعارات منقوصةَ إن لم تُقرن بورشةً إصلاحية كاملةٍ على الأرض وفي الثقافة القضائية. فهل سيكون للنادي مثلًا مواقف حاسمة من قضايا حساسة في البلد تشوّه سمعة السلطة القضائية مثل قضية زياد عيتاني؟ وهل سيقف النادي بالمرصاد لكلّ الانتهاكات السافرة في الجسم القضائي ويسمي الأشياء بأسمائها؟ وكيف سيساهم في إعادة ثقة اللبنانيين بالقضاء بعيدًا من الشعارات وخارج إطار مطالب القضاة المادية؟ وغيرها الكثير من الأسئلة.

يشير مصدر قضائي في النادي لـ "المدن"، أنّ الجمعية العمومية للقضاة التي تضمّ 400 قاضٍ، هي من تقرر المضي في الاعتكاف أو العدول عنه، والنادي جزء منها. فـ"الموضوع ليس لدينا. وبعد هذه الندوة، على السلطات الرسمية والسياسية أن تبادر للاستماع إلى مطالب السلطة القضائية، لأننا لا نستطيع الحديث عن استقلالية القضاء طالما أنّ مجلس القضاء الأعلى يجري تعيينه من الحكومة".

يعتبر المصدر أنّ ثمّة شعورًا لدى القضاة بأنهم مستهدفين في سلطتهم وفي ضماناتهم، وهم يعبرون عن ذلك بالاعتكاف، كما في الندوة الأولى من نوعها التي يوجهون فيها رسالة إلى الرئيس عون من أجل الوقوف إلى جانبهم في مطالبهم. أمّا عن استرجاع ثقة الناس بالقضاء، ووجوب اتخاذ النادي مواقف من قضايا حساسة في البلد هزّت صورة الجسم القضائي، فـ"نحن نسعى لمعالجة الأسباب، ونصرّ على مبدأ استقلالية السلطة القضائية على كلّ المستويات، الكفيلة وحدها بوضع حدٍّ لكلّ الخروقات الحاصلة".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024