محاكمات لبنانية صورية إلا على الضعيف والسوري والفلسطيني

محمد أبي سمرا

الجمعة 2019/07/19

المجرمون الثلاثة الذين التقى بهم الراوي خليل خالد الفغالي (ولد سنة  1934 في المريجة) أثناء اختبائه في تتخيتة مطبخ منزل الياس الصوري في المريجة مطلع الخمسينات، بعد ارتكابه محاولة قتل الشاب ميشال شرابية، وكانوا مع الصوري في شبكة قبضايات هنري فرعون في زحلة وبيروت (استكمالًا لـ "مافيا الإدارة والمحاكم")، علم أنهم حوكموا على نحو أقل صورية من محاكمته، وبتدخل من زعماء كثيرين نافذين يتمتعون بسطوة على كبار الموظفين وصغارهم.

الخواجا والأستاذ
القبضاي البقاعي، ابن بلدة جديتا، المدعو عنتر أبو زهر، الذي كان مختبئًا في التتخيتة مع ولده ابراهيم، حُمّل ابنه وحده تهمة قتله عددا من أتباع الزعيم والنائب الزحلي جوزف سكاف، في مقهى بمدينة زحلة، فخرج الأب من السجن بعد مدة، وحُكم ابنه ابراهيم بالسجن المؤبد. وبعد سنوات خمس، وكان الراوي قد صار شرطيًا في سلك شرطة بيروت، صادف ابراهيم أبو زهر في سجن القلعة في رأس بيروت، فتعرّف ابراهيم إليه، وأخذ يقول له متوسلًا: دخيلك، دخيل عرضك ساعدني، الخواجا نساني وتركني. وعندما كان يقال الخواجا في بعض البيئات الأهلية والمحلية البيروتية ومناطق أخرى في تلك الأيام، لم يكن الشخص المعني سوى هنري فرعون. وذلك على نحو ما كان يقال "الأستاذ" أو "بيت الأستاذ" في المريجة، فيكون المقصود المفتش العام والد الراوي وبيته. أما ابراهيم أبو زهر فعلم الشرطي، ابن الأستاذ، أنه خرج من السجن المؤبد عام 1957، حينما شمله مرسوم جمهوري أصدره الرئيس كميل شمعون في آخر أيام عهده، عفا بموجبه عن عدد من السجناء. لكن الخواجا فرعون لم ينس القبضاي الآخر، جوزف أيوب، الذي أطلق النار على رجل إطفاء بمحلة القنطاري في بيروت، بل تدبر أمره وتمكن من إسقاط الدعوى القضائية عنه، فلم يدخل السجن.

سجين سوري
في أيام سجنه القليلة في سرايا بعبدا، تعرف الراوي إلى سجناء وسمع منهم حكايات عن جنايات ارتكبوها، وعن محاكمتهم القضائية.

من هؤلاء سجين سوري نسي الراوي اسمه، ربما لأنه عاميٌّ وسوري، ما دام الراوي يتمتع بذاكرة لبنانية حادة، يندر أن تنسيه اسم شخص صادفه في حياته، على ما تؤكد غابة الأسماء التي لم يتوقف عن ذكرها. روى له السجين السوري أنه مضى على توقيفه في سجن سرايا بعبدا الحكومية 11 شهرًا، من دون أي تحقيق أو محاكمة. كان الرجل عاملًا مياومًا في ورشة بناء قريبة من معمل للأجواخ في الحدث. فيما هو يمر عابرًا في طريقه إلى الحازمية، رأى ثمار الليمون الحامض تتدلى من أشجار بستان إلى جانب الطريق الخالية، فسولت له رغبته أن يقطف بعضًا من ثمارها الناضجة. صادف أن صاحب البستان أبصر الرجل، فخرج من بستانه مستاءً غاضبًا، وأخذ يصرخ مهددًا متوعدًا، وشاء سوء طالع الرجل السوري أن تمر في تلك اللحظات دورية راجلة من رجال الدرك، فقبضوا عليه، ودوّنوا في سجل الإفادات الذي يحملونه أنه ضُبط في جرم السرقة المشهود، وسجلوا إفادة صاحب البستان ممهورة بتوقيعه، ثم اقتادوا السارق إلى سرايا بعبدا، ورموه في سجنها موقوفًا على ذمة التحقيق. لم يزر أحد الرجل في سجنه. وحين خرج الراوي من السجن لم يكن السوري يعرف أحدًا في الخارج كي يحمّله سلامًا إليه أو يطلب منه مساعدة.

وآخر فلسطيني
سجين آخر، فلسطيني من آل كتمتو، مضت مدة طويلة على توقيفه من دون تحقيق أو محاكمة. لكنه يختلف عن السوري في ارتكابه جريمة مشهودة. كان الرجل الفلسطيني مع حشدٍ من اللاجئين الفلسطينيين، يتزاحمون ويتدافعون عام 1950 على باب مركز "وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين" (الأونروا)، حيت تُوزع عليهم الإعاشة في الشويفات. وسط الزحمة والتدافع المحمومين، تشاجر كتمتو مع فلسطيني آخر يزاحمه للدخول قبله إلى المركز، للحصول على الإعاشة. فتطورت المشاجرة بينهما، واستل كتمتو سكينًا يحملها وطعن بها صدر مزاحمه الذي توغل نصل السكين في قلبه، فقضى على الفور، وقُبض على القاتل. وحين غادر الراوي السجن مودعًا، شعر أن كتمتو باقٍ على حاله إلى الأبد في السجن.

وختم الراوي حكاياته هذه قائلًا: هكذا كانت حال مؤسسات الدولة اللبنانية وأجهزتها الأمنية والإدارية والقضائية، قبل 70 سنة، وهي لا تزال على حالها حتى الساعة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024