"مشروع ليلى": كيف انطلقت الحملة في جبيل؟

شربل شامية

الجمعة 2019/08/02

عاش المجتمع اللبناني، والمسيحي خصوصاً، وتحديداً في الأوساط الشبابية، أجواء مشحونة في الأسابيع الأخيرة. وهي أجواء صارت معتادة تقريباً في مواكبتها الحوادث والانقسامات السياسية اللبنانية. لكن أسباب الانقسام والشحن والتحريض كانت مختلفة هذه المرة: فرقة فنية موسيقية، شبابية ومعروفة في الأوساط الشابة، ومدعوة للمشاركة في مهرجانات جبيل الفنية الصيفية. إنها فرقة "مشروع ليلى" التي أدى ما حدث إلى شهرتها في أوساط لا تعرفها، أو سمعت باسمها لماماً، ووصلت شهرتها إلى بيئات ذوقها الفني والموسيقي غريب تماماً عما تقدمه الفرقة من موسيقى غربية الطابع.

الحملة والشهرة
كانت لجنة مهرجانات بيبلوس هي التي دعت الفرقة الموسيقية إلى إقامة حفل موسيقي في 9 آب. ومنذ أكثر من أسبوع انقسمت فئات من الرأي العام بين معارض إقامة الحفل ومؤيد لإقامته. وبرزت دعوات للمقاطعته، وقامت تظاهرات وتظاهرات مضادة، ووصلت الأمور أخيراً إلى حدّ التهديد باستعمال العنف، فقررت لجنة مهرجانات بيبلوس إلغاء الحفل "منعًا لإراقة الدماء".

السبب الرئيسي للحملة أو لـ"الانتفاضة" المعارضة لإحياء حفلات الفرقة، والمنطلقة من البيئة المسيحية، هو أن حامد سنو (المغني الرئيسي في الفرقة) كان قد نشر على صفحته على الفايسبوك عام 2015 مقالة لكاتب أجنبي تحوي صورة أيقونة للسيدة مريم العذراء، وقد تم استبدال وجهها بوجه فنانة أجنبية. هذا إضافة إلى أن في رصيد الفرقة أغانٍ يعتبرها المحافظون المسيحيون تمسّ بمعتقداتهم الدينية والاجتماعية.

لكن المشاركة في مهرجانات جبيل ليست الأولى لـ "مشروع ليلى" في مناطق مسيحية في لبنان. وهي كانت قد شاركت سابقاً في إحياء حفلات في مهرجانات بعلبك الدولية، كما أن أغانيها قديمة وليست بجديدة. ثم أن بعضاً من سلطات الدول العربية منعت الفرقة من تقديم حفلاتها على أراضيها.

مطلقي الحملة
أما المطلق الرئيسي للحملة التحريضية الأخيرة على الفرقة في البيئة المسيحية اللبنانية، فهو القيادي في "التيار الوطني الحر" (العوني) في جبيل ناجي الحايك. وما لبث "حزب القوات اللبنانية" والمركز الكاثوليكي للإعلام وأبرشية جبيل المارونية والنائب زياد حواط أن انضموا إلى الحملة، ومعهم جوقة كبيرة من المؤمنين المحافظين المنددين بمشاركة الفرقة في المهرجان الفني.

الفرقة، في المقابل، تنادي بالنسوية وحقوق المثليين، تعرضت لانتقادات كثيرة اتخذت طابعاً عنيفاً في أحيان كثيرة، واعتبر البعض الفن التي تقدمه الفرقة فناً هابطاً.

لذا يمكن القول إن "الانتفاضة" المحافظة الأخيرة لسيت بجديدة، لأنها تبرز من حين إلى آخر في بيئات دينية وطائفية مختلفة في لبنان. لكن ما لا شكّ فيه أن وطأة الانتفاضة أو الحملة الأخيرة جاءت قوية وحامية في البيئة المسيحية.

مثالات المسيحيين الإسلامية
ما هو سبب هذه الموجة المسيحية المحافظة المتشددة، وما ومن الذي يقف  وراء التطرف الجديد - القديم لدى الطوائف المسيحية؟

في نظرة تحليلية معمقة لتلك الظاهرة المتجددة، نرى أنها ناتجة عن خوف أو شعور بالتهديد الوجودي لدى المسيحيين. لذا ربطوا بين شعورهم بإهانة معتقداتهم وبين وجودهم في محيط لا يشبههم نسبيًا. وفي نظرة سريعة إلى التاريخ الحديث نرى أن تزايد إحساس المسيحيين بالخطر على وجودهم، يزيدهم انغلاقًا وتشددًا. فهم يعيشون في منطقة عربية لا تستهويهم قضاياها، وفي محيط إسلامي يتوجّسون من تياراته المتشددة. وصورة ما يسميه العونيون "غزوة الأشرفية" - التي قامت بها جماعات إسلامية وأحرقت في 5 شباط 2006 السفارة الدانماركية في بيروت، احتجاجا على رسوم كاريكاتورية تسخر من النبي محمد -  ما زالت حيّة في ذاكرتهم. وهم ينسجون اليوم على منوالها في المحافظة والتشدد الديني. ويتذكرون مجزرة شارلي إيبدو المرعبة باعتبارها قمة العنف الإسلامي الذي يخيفهم، ويفكرون فيه فيما هم يضعون خطوطاً حمراء مسيحية غير دموية، في وجه من يمسون برموزهم وشعائرهم الدينية.

البعد الباسيلي
لتلك الظاهرة المسيحية بعد سياسي أيضًا. فقد ترافق ظهورها مع صعود نجم الوزير جبران باسيل، ودغدغة زعامته مشاعر المسيحيين التي كانت مقموعة ومتململة. طبعا الوزير باسيل ليس وحده المسؤول. فخطابه الداعي إلى "إستعادة حقوق المسيحيين"، والذي يأخذ طابعاً طائفياً عنصرياً حاداً أحياناً، والردود التي تواجههه بالمثل، ساهمت بتغذية هذا الجو عند المسيحيين وسواهم من الأفرقاء اللبنانيين.

وضع جبران باسيل خصومه المسيحيين في موقف لا يحسدون عليه. ففيما تحاول القوات اللبنانية، ومثلها الكتائب اللبنانية، إبراز خطاب اعتدالي عابر للطوائف - تارة عبر إعلان النائب سامي الجميل أنه لا يجوز أن تتحقق حقوق مسيحيي لبنان على حساب مسلميه، وطوراً عبر موافقة القوات على المادة 80 من قانون الموازنة التي تنص على حفظ حقوق الناجحين في مباريات مجلس الخدمة المدنية بمعزل عن التوازنات الطائفية - يذهب باسيل والتيار العوني وراءه مذهباً مغايراً يثير فئات مسيحية واسعة يطلق حميتها.

وقد تكون بداية الحملة التي أطلقها القيادي العوني في جبيل ضد "مشروع ليلى"، متأثرة بالاندفاعة الباسيلية. وهي تحولت إلى موجة شاركت فيها الأطراف الجبيلية المحلية، الحزبية والسياسية والدينية المتباينة والمختلفة، تيمناً بالقول الشائع: "من يحضر السوق يبيع ويشتري". وهذا يعني أن من لم يحضره لا يبيع ولا يشتري.

وكأنما المثل القائل: "الناس على دين ملوكها"، انقلب في لبنان اليوم إلى عكسه: "الملوك على دين رعيتهم"، أو يماشون رعيتهم، طالما أنهم ليسوا ملوكاً، بل زعماء شعبيون.   

لطالما تغنّى المسيحيون في لبنان أنهم دعاة انفتاح ومنارة للحرية في هذا الشرق، وأنهم صلة الوصل بين الشرق والغرب. وهذا هو موقعهم الطبيعي. فلا محاكم التفتيش ولا الحروب الصليبية تعيد لهم حقوقهم. وما هي حقوقهم أساساً؟ وماذا تختلف عن حقوق المسلم أو أي انسان آخر؟

المعركة ليست معركة مقدسات ومعتقدات ودفاع عن آلهة في وجه الشياطين. المعركة الوحيدة التي يستحق الانخراط فيها هي معركة العيش الكريم ومكافحة الفساد والهدر والانحطاط الأخلاقي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024