لإقرار الزواج المدني: نعود 83 سنة إلى الوراء

حسين مهدي

السبت 2019/04/13

يبدو أن إستعادة الحق في الزواج المدني على الأراضي اللبنانية، الذي انتزعه الزوجان نضال وخلود في العام 2013، يتطلب فعليّاً آلية عودة بالزمن تعيدنا 83 سنة إلى الوراء، حين كان حق الفرد بالزواج المدني مُصان. أما واقعياً، فيتطلب الأمر مبادرة جريئة من وزيرة الداخلية الحالية ريّا الحسن، وإصدار تعميم بوجوب إلتزام القوانين المرعية، يسمح بتسجيل الزيجات المدنية المعقودة في لبنان.

الوزيرة ريا الحسن "تحبّذ، شخصياً، أن يكون هناك إطار للزواج المدني"، وهو تصريح أدلت به في وقت سابق، أعاد ملف الزواج المدني إلى الواجهة من جديد. النقاش الواسع الذي دار في البلاد حول القضية، دفع الكثيرين للسعي للإبقاء على هذا النقاش قيد التداول، حتى لا يكون مجرّد "فورة" تابعها الإعلام لفترة وجيزة، وتُنسى كما قضايا حقوقية أخرى، فيما بعد.

نايلة جعجع: تعديل القوانين الطائفية للأحوال الشخصية
من هذا المنطلق، نظّم معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية، في الجامعة الأميركية ببيروت، حلقة نقاش حول "إقرار الزواج المدني في لبنان: بين الإصلاح القانوني والتفاعل السياسي والإجتماعي".

إلتزام الدستور وتطبيق القوانين، عبر تسجيل الزيجات المدنية المعقودة على الأراضي اللبنانية، تزامناً مع إقرار إصلاحات في قوانين الأحوال الشخصية الطائفية، خطوتان أساسيتان يمكن لهما أن تفحسا المجال أمام إقرار قانون مدني إختياري للأحوال الشخصية، في مرحلة لاحقة. هذه هي خلاصة مداخلة المحامية نايلة جعجع، التي قدمّت مقاربة جديدة في موضوع نقاش قضية الزواج المدني في لبنان. جعجع تلفت إلى أن الدولة هي التي تقوم بالاعتراف بالطوائف وليس العكس، كما أن المشرّع الوحيد في الجمهورية اللبنانية هو المجلس النيابي، المسؤول عن إقرار القوانين ومراقبة حسن تطبيقها. هذه المقاربة القانونية تتيح للمجلس النيابي أن يلعب دوره الذي تخلّف عنه من العام 1936 في مجال الأحوال الشخصية.

لذلك، ترفض جعجع أن يتم حصر النقاش بالزواج المدني، فالدولة عليها واجبات ضرورية في مجال الأحوال الشخصية، وتعديل القوانين الطائفية للأحوال الشخصية، بما يرفع الظلم الذي يلحق بالنساء والأطفال، وحتى الذكور، داخل المحاكم الدينية، وهو أمر أساسي وأهميته مساوية لحقوق الأفراد في الزواج المدني وإقرار قانون مدني خاص بالأحوال الشخصية.

غسان مخيبر: حقوق الأفراد
النائب السابق غسان مخيبر، الذي يفخر بزواجه الكنسي، صنّف نفسه بأكثر المدافعين الشرسين عن "حق أي فرد يريد أن يتزوّج مدنياً لأي سبب كان". وفي هذا السياق، قدّم مخيبر شرحاً قانونياً، للطريقة التي يمكن ان يُعقد من خلالها زواجاً مدنياً في لبنان، وذلك عبر الاستعانة بنص القرار 60 ل.ر الصادر في العام 1936، الذي يعطي المنتسبين إلى طوائف الحق العام وغير المنتسبين إلى أي طائفة حق الزواج المدني. حينها كان المشرّع أكثر ليبرالية ومقرا لحقوق الأفراد أكثر من حال واضعي السياسات اليوم.

ويشدد مخيبر إلى أن عدم الانتساب إلى أي طائفة لا يعني إلحاد الأفراد أو عدم إيمانهم بالأديان، وإنما عدم التصريح عنها فقط، وذلك من خلال شطبها من دوائر النفوس. قائلاً: "في لبنان أكثر من 60 ألف مواطن غير منتسبين لأي طائفة".

وشطب الطائفة هو إجراء إداري، بدء العمل به بعد تعميم أصدره وزير الداخلية السابق زياد بارود، تمهيداً لعقد الزواج المدني في لبنان. وبمجرد أن يشطب الفرد الإشارة إلى الطائفة في دوائر النفوس، يعني تضمينه في خانة من لا طائفة لهم، ليكسب بذلك حقه كمواطن بعقد زواجه المدني على الأراضي اللبنانية، عوضاً عن إرغامه على عقد زواجه مدنيا في دول أجنبية.

زياد بارود: الشعور الإنساني
وخلال النقاش، ظهر وزير الداخلية زياد بارود أقل حماسة من مخيبر فيما يتعلّق بإعادة فتح النقاش حول الزواج المدني في لبنان، إذ قال: "اللي بيعرف عن الموضوع بيعرف، واللي ما بده يعرف كمان بيعرف عن الموضوع"، وأضاف: "لم يستطع أي من المعترضين أن يكشفوا لنا كيف ننتهك الدستور"، فجابه المعترضون الحجج القانونية والحقوقية بـ"الصراخ". الوزير الذي مهّد لعقد أول زواج مدني في لبنان، من خلال تعميمه الذي سمح بشطب الطائفة عن دوائر النفوس، تأسف أن يكون مجبرا على خوض معركة من أجل تحصيل "حقوق إنسانية بديهية وهي تعنى بالشعور الإنساني، ولا تؤثر على الانتظام العام".

وإلى ذلك، جرت 12 محاولة في تاريخ لبنان لإقرار الزواج المدني أو قانون اختياري للأحوال الشخصية. من مشروع نقابة المحامين عام 1952 الذي وضع على جدول أعمال مجلس النواب دون أن يقر، مشروع الحزب الديمقراطي (عامي 1971 و1995)، ومحاولات أخرى، آخرها كان مشروع الرئيس الهراوي الذي أقرته الحكومة في العام 1998، إلا أن الرئيس الراحل رفيق الحريري وضعه في "الأدراج" آنذاك، ومشروع الحملة الوطنية للحقوق المدنية وجمعية "شمل" الذي قدّم للمجلس النيابي في العام 2011، عبر النائب السابق غسان مخيبر، من دون أن يناقش حتى اليوم.

المعارضة والمناصرة
كانت الأجواء في النقاش توحي بأنها "أهلية بمحلية"، ولم يكسر رتابة المشهد سوى سيدتين من بين الحضور، الأولى عرّفت عن نفسها كـ"حائزة على دكتوراه في الشريعة الاسلامية"، والثانية رئيسة إحدى الجمعية المعنية بـ"رعاية الأسرة". السيدتان قدمتا مداخلات مناهضة لإقرار الزواج المدني في لبنان، حين اعتبرا أنها خطوة تنتهك الدستور اللبناني، الذي يلفت في مادته التاسعة لممارسة الدولة لـ"فروض الإجلال لله تعالى". المداخلتان شكلتا فرصة للتعمق في نقاش حول تفسير هذه المادة، حيث أكّد مخيبر بأن "فروض الإجلال لله تعالى" لا يمكن أن تنفي حق الشخص في عدم الإعتقاد بأي دين، خصوصاً أن حرية الإعتقاد مطلقة في الدستور اللبناني. أما فيما يتعلق بحق الطوائف في تنظيم الأحوال الشخصية في لبنان، فقد أكدّت جعجع أن هذا الحق أعطته الدولة للطوائف، "وهناك ثلاثية لا يمكن أن نتخطاها في المجتمع: هي الطائفة الأفراد والدولة، والدولة لها واجب حماية حقوق الأفراد".

ولكن ما جدوى تنظيم هكذا لقاءات، ما لم تترافق مع خطوات عملية من قبل الفاعلين، خصوصاً أن كافة الحاضرين (باستثناء شخصين) مثلاً، كانوا من مناصري الحق بالزواج المدني؟ ومن أين يبدأ الضغط لإقرار حقوق الأفراد في الزواج المدني وإقرار قانون مدني اختياري للأحوال الشخصيّة؟

بانة بشور، ميسرّة النقاش، والأستاذة المشاركة في قسم الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت، تردّ غياب وجهة النظر المعارضة للزواج المدني في لبنان، لإقتناع معهد عصام فارس للسياسات العامة بضرورة دعم الأكاديميين للسياسات المبنيّة على الحقائق العلميّة، مشيرة إلى أن أكثر من  235 أستاذاً جامعياً، وقعّوا على بيان موجّه للمجلس النيابي، يطالبه باقرار قانون مدني للأحوال الشخصية.

سؤال إلى الوزيرة
النائب السابق غسان مخيبر، يلفت إلى أن الهدف من لقاءات مماثلة هو تطوير الثقافة القانونية للحقوق والحريات بين اللبنانيين، معتبراً أن الخطوة الأولى الواجب تنفيذها هي التوجه لوزارة الداخلية والبلديات، لإعادة العمل بالممارسة الإدارية التي تسمح بتسجيل الزيجات المدنية في لبنان. كما يعتبر مخيبر أنه من المفيد تثبيت اجتهادات قضائية في هذا المجال، من خلال قرارات تصدر عن المحاكم، مذكراً بحكم صدر عن قاضي الأمور المستعجلة جاد معلوف في العام 2015، يقر بحق المواطنين في عقد زواجهم على الأراضي اللبناني، ولكن لم يبت في القضية آنذاك لعدم اختصاصه.

وكان لافتاً إشارة وزيرة الداخلية إلى أنه في حال طرح عليها مجدداً السؤال عن رأيها بالزواج المدني، ستعيد الإجابة نفسها، وهو موقف جريء بالرغم من كل الضغوطات السياسية والدينية التي تعرّضت لها، فهل تجرؤ الوزيرة على إعادة العمل بالممارسة الإدارية، التي تكرّس حق الأفراد بتسجيل زيجاتهم مدنياً، بعد أن أوقفها سلفها خلافا للقانون؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024