سيدات الشمال في "شِغل الضّيعة": مبادرة ضد الوجع الاقتصادي

جنى الدهيبي

الأربعاء 2020/07/08
"شِغل الضّيعة"، هي عبارة محببة لدى اللبنانيين للدلالة على المنتجات الغذائية البلدية أو القروية. وبما أن الأزمة الاقتصادية الخانقة أكثرت من الكلام والشعارات عن العودة إلى الزراعة على ألسنة اللبنانيين، اختار مشروع صغير انطلق في طرابلس شمالًا، بالتعاون مع سيدات من الضنية وعكار، اسمه وشعاره من الضيعة: "من الأرض بالضيعة منصنع منتوجات مفيدة وبأسعار مناسبة جدًا بالجملة والمفرق".

العونة القروية
لائحة منتوجات هذا المشروع طويلة (للاطلاع على الرابط). وهي على بساطتها من الحاجات الأساسية لكل عائلة، ولغرف المونة في البيوت اللبنانية. فسكان البيوت - في زمن الانهيار الكبير وتدهور قيمة الليرة إلى مستويات قضت على القدرة الشرائية - أصبحوا عاجزين عن تأمين معظم حاجياتهم، وما كان أساسيًا صار كماليًا أو لمن استطاع إليه سبيلا: من المكدوس والزعتر والزيتون والكشك ودبس الرمان ودبس الخروب والكبيس والشنكليش والمربيات وماء الورد والزهر والخل على أنواعه وغيرها. لذا صارت هذه الأصناف كلها من منتوجات هذا المشروع، وبأسعار زهيدة. وذلك بعدما صارت أسعار هذه المواد الغذائية عالية من الأسواق، وغالبًا ما تكون مغشوشة الجودة.

فكرة هذا المشروع الذي تأسس حديثًا، جاءت بمبادرةٍ من الصحافية اللبنانية فتون رعد ووالدتها. وقد أسستا شبكة من نساء خمس في عكار والضنية، تعملن على تصنيع هذه المنتوجات، التي لهن فيها باع طويل وخبرة صناعتها في منازلهن، وفق معايير مشتركة بينهن، مع الإلتزام بشروط التعقيم والنظافة.

والمشروع الذي يهدف إلى تأمين منتوجات منزلية بلدية صحية وطبيعية، بكلفةٍ منخفضة، تتحدث عنه رعد إلى "المدن". ففكرته الأساسية مستوحاة من الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها اللبنانيون. وقالت: "على المستوى الشخصي، كنا نسعى لتأمين مدخول مادي مستقل لأنفسنا، لأن أيّ عمل وظيفي في لبنان بات مهددًا بالتوقف في أي لحظة. وهذا إلى جانب دحض الهاجس من عدم القدرة على تأسيس أي مشروع إنتاجي في لبنان".

هاجس الجودة والأسعار
لذا، "فكرنا - تضيف رعد - أن يكون العمل في المشروع هو رأس ماله، وسلعه الانتاجية الأساسية يحتاجها الناس بشكل ضروري في منازلهم. لكن المعيار الأهم هو الجودة الطبيعية والأسعارالمقبولة، التي تكون في متناول الجميع. لأنّ الأزمة الاقتصادية لم تستثنِ أحدًا من اللبنانيين". أضافت رعد: "رأينا أن هذه المنتوجات حين تصنع بطريقة جيدة، لا تكون كلفتها خيالية كما هي مسعرة في الأسواق اللبنانية، بسبب جشع التجار الذين يبيعون معظم المواد مغشوشة وغير أصلية".

وفور الإعلان عن المشروع بطريقة بسيطة عبر تطبيقي واتساب وانستغرام، تفاجأ الناس بالأسعار فكان الإقبال كبيرًا على المنتوجات، ومنهم من ظنّ أنّ ثمة علّة ما في جودتها. لكن تذوقها أثبت لهم العكس.

وحاليًا، بدأت تتوسع دائرة الطلبات على  هذه المنتوجات إلى بيروت والجبل. حتى أن مغتربين طلبوا من "شِغل الضيعة" تموين منزل أهلهم في لبنان من منتوجاتهم. وأكدت رعد: "دعايتنا الوحيدة هي جودة المنتوجات، وإلا نخسر استمرارية المشروع والزبائن معًا".

تحديات كلفة التوضيب
في الواقع، يواجه أصحاب المشاريع الناشئة على اختلافها، تحديًا كبيرًا في لبنان: الغلاء الكبير في كلفة المواد الأولية، وعدم ثبات أسعارها، لا بل تصاعد وتيرتها بالتوازي مع الارتفاع اليومي في سعر صرف الدولار. وقالت رعد: "حتى الآن، كل سيدة من سيدات المشروع تعمل من منزلها. لكننا نواجه مصاعب في تأمين كلفة بعض المواد الأولية، وخصوصًا كلفة وسائل التوضيب، كالأكياس والقناني والمعلبات. فالتجار يطلبون ثمنها بالدولار، أو بالليرة حسب سعر الدولار في السوق السوداء".

هذا التحدي - وفق رعد - لا يؤمن الاستقرار للمشروع لا في العمل ولا بالأسعار، "بينما الناس بأمس الحاجة للاستقرار والثبات والصدق في التعامل، كي تشعر بالثقة. وهذا ما دفعنا إلى الاكتفاء بهامش ضيق في الربح".

مشروع صحافية
لكن ما الذي دفع رعد إلى التفكير بهذا النمط الجديد من العمل بعيدًا من عملها الصحافي؟ أجابت: "منذ مدة طويلة أفكر بتأسيس مشروع تجاري خاص. على أن يتأسس على بُعد تنموي اجتماعي ومفيد للعاملين فيه ومستهلكي منتجاته. ونحن هنا نتحدث عن تمكين نساء من العمل في منازلهن، وتوظيف مهاراتهن العملية، لتأمين استقلاليتهن المادي الخاص، ولعائلاتهن التي تحتاج إلى ذلك".

وهذا النوع من المشاريع، وفق رعد، يؤمن جزءًا من الاستقرار، "لا سيما أن مهنة الصحافة لم تعد مستقرة، ومعيار الكفاءة لم يعد موجودًا لدى معظم مؤسساتها الكبيرة. ونحن في مرحلة لا بد لكل شخص من التفكير ببدائل عن عمله في حال خسره".

من خلال "شِغل الضّيعة"، تشجع رعد النساء والرجال أيضًا أن يعملوا من منازلهن. لكن الأهم وفقها، "أنّ كل هذه المبادرات ليست كفيلة وحدها بتحريك العجلة الاقتصادية. وهي ليست حلولًا ولا يجب أن نتأقلم مع الوضع ونلجأ لتجميل الواقع. لأن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق المسؤولين في سلطة القرار". وتابعت: "نحن ننجز مبادرات من وجعنا، كنوع من التنفس الاصطناعي. فيما المسؤولية كاملة في ذمة السلطة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه. وهي عاجزة عن وضع أيّ خطة لإنقاذنا من الغرق".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024