ثورة الأمل بين خريفين

فيرينا العميل

السبت 2020/10/17
مرّ منذ سنة أكثر من عقد. بتقلّب مزاج الخريفَين.
وبين غيابه وإيابه، تركَنا فصل الخريف في عالَمين بين السنتين: بين لمعة الأمل ودمعة الألم نضال وذكريات.
مَن منّا لا يذكر ليلة انفجار الثورة؟

اشتعلت شرارتها الأولى بعد سلسلة حرائق كبيرة في غابات البنان، وفشل المسؤولين قبلها في تعيين حراس أحراج، بسبب خلافاتهم على التحاصص الطائفي. وتخللت الحرائق خطابات طائفية: "ليش الحرايق عند المسيحية مش عند الاسلام"، قال نائب في البرلمان. وخطابات تأديبية: "ما حدا يسمعني صوتو". وبدء مضايقات المصارف، وبروز معالم الأزمة الاقتصادية. وأخيراً ضريبة 6 دولار على تطبيق الواتساب المجاني.

أذكر ليلة 17 تشرين 2019. رأيت على شاشات التلفزة ناساً في الضاحية الجنوبية وبيروت وعين الرمانة وسائر المناطق، يطلقون صرخاتهم ثائرين على واقعهم وعلى الأحزاب المهيمنة على مناطقهم.

ونزلت إلى ساحة رياض الصلح. كان الغضب عارماً وجارفاً، وحمل الوزير محمد شقيرعلى التراجع عن فكرته "العبقرية". لكن تراجعه لم يشفِ غليل من ثاروا، وأُعلنت معركة إسقاط النظام ورموز فساده.

شباب الأمل وطلابه
وفي الأيام الأولى كان لافتاً نزول الطبقات العاملة وحتى قواعد بعض الأحزاب الطائفية، رافعين راية معركة "الخبز". وبعد بضعة أيام حاولت الأحزاب استيعاب بعض الثائرين لرص الصفوف، تارةً بتخوين الثورة وطوراً بالتهويل والتخويف.

ومنذ تلك الليلة أصبحت الثورة من يومياتنا.

مشهديّات خلّدت ذكراها فينا: كيف أنسى ثورتنا الطلابية والشبابية؟ كيف أنسى الليالي التي قضيناها في ساحات الثورة للـ"تشبيك" وتهيئة التحركات لليوم الثاني؟ ودور النوادي العلمانية والشبابية، ومسيرتنا الطلابية وإحياء النبض في أسابيع خفتت فيها الثورة بعض الشيء.

كيف أنسى لمعة الأمل في عيون الناس، ضحكاتهم العريضة، وامتلاك اللبنانيين الساحات والشوارع وسوليدير، وساحة النور وصور؟ والأهم أنهم استعادوا الأمل وثقتهم وقدرتهم على تقرير المصير.

لم تنجح تكتيكات السلطة بتفريقهم. سقطت المناطقية والطائفية، وعلا الخطاب العلماني المضاد على خطابات ما قبل 17 تشرين.

تحطيم الأصنام
ولم تكلّ  الحشود ولم تملّ من إغلاق الطرق حتى أسقطت في أسبوعين حكومة الحريري، غير آبهة لتهديدات حاميها (حزب الله). مرددين "كلن يعني كلن"، ومسمين مكونات 8 و14 آذار بأسمائهم، ومحطمين أصنامهم.

على جسر الرينغ علت هتافات "سقطت، سقطت الحكومة وح نكفي عالباقين". كان الأمل باسقاط كافة أركان النظام، منظومته وحاميها. ولربما الهفوة التي أرهقت الثورة، كانت منح البعض حكومة حسان دياب فرصة 100 يوم. لكن الشارع كان قد حجب عن حكومة دياب الثقة قبل أن تُمنحها، فولدت بلا شرعية. كيف ننسى العنف الذي مورست علينا لتفريقنا؟ أكاد أقول إنّ معظم من كان في صفوف المتظاهرين في ذلك اليوم، نال نصيبه من الضرب، والقنابل المسيلة والتوقيف.

من استطاع أن يهرب من بطش القوى الأمنية، لم يستطع أن ينأى بنفسه عن تشبيح الميليشيات.

وانقضت مرتين مهلة الـ 100 يوم، ولم تنجز الحكومة ما يُذكر. فهي لم تختلف عن حكومات الحريري إلا بمحاولات سطحية (باءت بالفشل) لتلميع صورتها بتوزيرها 6 نساء وتعيين وجوه أكاديمية عديدة.

وثبُت بعد الفشل الذريع أننا علينا التخلص من الطبقة الأوليغارشية الفاسدة، لا بعض الوجوه من دون أي تحسين أو تطوير في النهج السياسي.

وباء وانهيار فانفجار
مع الانهيار الاقتصادي الذي تزامن مع وجود دياب في السلطة وانتشار الوباء والتخويف منه، خسر الشارع زخمه وبدأ الإحباط يتغلل شيئاً فشيئاً في داخلنا. وكلما ابتعدنا عن الشارع ابتعدنا عن الوضوح.

استغلّت المنظومة انصراف الناس إلى تأمين قوتهم والحفاظ على صحتهم، لاعادة نسج الخيوط الزبائنية والطائفية واستخدام الطريقة البعثية لإنتاج دولة بوليسية تقمع النزعات التغييرية والتحررية.

وعدنا شيئاً فشيئاً إلى الستاتيكو الذي كنا قد كسرناه. إلى أن انفجرت نيترات الأمونيوم في مرفأ العاصمة.

وهنا اضمحلت كل بسمة، وتحولت لمعة العيون إلى دموع.

لم نعد نتكلم عن فاسدين أو فاشلين أو ناهبين أو مجرمين عفى الزمن عليهم. بل عن سفاحين فاقدين أية شرعية. في لحظة فجروا العاصمة، شردوا أكثر من ربع مليون، قتلوا أكثر من 200 شخص.. ورأوا في ذلك فرصة جديدة.

اغتنموها كلحظة سياسية لإعادة بناء علاقات مع المجتمع الدولي الذي نبذهم. ولم تظهر على ملامحهم علامات الأسف أو الحزن.

ماكرون وتناقضاته
ومثلهم جاءنا المتعاطف، وجاءنا المغتنمون.
وأبرزهم مازج الإثنين معاً، رئيس جمهورية فرنسا إيمانويل ماكرون.

بصرف النظر عن مصالح شركة توتال ومصالح المرفأ والنفط والغاز، جاءنا "المخلص" ماكرون. ولكن سرعان ما تجلت طريقته المترددة والمتناقضة:

تارةً يأتينا بثوب المعادي للسلطة ليفرض أجندة الشعب اللبناني، وتارةً يعيد الشرعية لحاكمينا: "الشعب انتخب هذا البرلمان، وهذا له شرعيته في هذه الديمقراطية"، قال. وبعض المعارضين رددوا كلامه. وكأنّ الشرعية انتخابات فقط. وكأنّ كل ما هو منتخب ديمقراطي.

فلنعتبر أنّ نتائج الانتخابات لم تزوّر في مناطق عديدة. وجمانا حداد لم تنم على أنها نائبة وتستفق على أنها خارج المجلس. ولنعتبر أنّ تقسيم الدوائر الانتخابية لم يفصّل على قياس مصلحة مَن شرّعوا.

أليست الديمقراطية فصل السلطات؟
أيّة ديمقراطية هذه تكون السلطة السياسية فيها وصية على القضائية؟ أيّة ديمقراطية والنقابات غائبة أو غير فاعلة؟

بارقة في الأفق
في 17 تشرين الأول 2020 لم نعد إلى نقطة الصفر كما يبدو لنا. حتى لو أنّ حكومة برئاسة الحريري قد تعود بعد سنة غياب. وحتى لو أن الأزمات أصبحت أكثر عمقاً ووضوحاً. وحتى لو أنّ كثيرين سمعوا نصيحة الرئيس: "اللي مش عاجبو يروح يهاجر"، فشهدنا هجرة جماعية، بررها باسيل "بالعادية.. فلبنان يهجّر الأدمغة تاريخياً".

هناك ما لن يعود إلى الصفر. هناك غضب سبت 8 آب. هناك تغيير قد حصل. هناك عقد اجتماعي جديد يتهيأ ليتبلور. هناك في رحم الجامعات مَن سئمهم ولم يعد يقع في أشراكهم. وهذا ظهر في النتائج الإيجابية غير المتوقعة التي نالها المستقلون في جامعة LAU.

هناك مَن يرفض "النموذج الطائفي"، وصيغة "العيش المشترك والتعايش". هناك من يريد علمنة النظام وتساوي جميع المواطنين. هناك مَن يرفض القمع والزعامة والتوريث السياسي والعائلية والذكورية والأبوية. هناك ما يتراكم قبل أن ينفجر تغييراً جذرياً.
اليوم، في باريس أنبش في ذكريات ساحات بيروت وهتافات الثورة. العودة هي ما يواسي الشعور.
بعض المدن نسكنها، أما بيروت فهي ساكنتنا. بحزنها وسحرها، بصخبها وسكينتها، بالوجوه الجميلة الشاحبة والمتعبة تسكننا.

نتعلق بها تعلُّق من نحب، تعلق الأم بصغيرها المريض. ونترنح بين الرجاء وحبال الهواء.
لا نعرف كيف نعيش الأيام أو نحاكي الواقع الجديد الذي قد يتسع لما تبقى من أحلامنا. والحلم الأسمى والأكبر يبقى العودة إلى بيروت.
وبصيغة جمع المتكلم، أعني حالي وحال أترابي ممن هجر بيروت.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024