أخي وأنا وولديّ والسيترن

رنا قاروط

الجمعة 2017/08/18

ولدنا، أخي وأنا معاً، في العام 1981. وكان ذلك قبل سنة واحدة من الاجتياح الإسرائيلي لبيروت.

تخبرنا أمي عن تلك الحرب، لا عن التاريخ والسياسة، بل عن شقاء الحياة اليومية، ومغامرات لجار أو قريب نجا بأعجوبة من الموت، أو أصيب، أو خرج إلى الخطر وراهن بحياته لجلب الخبز والماء والبطاريات للمختبئين في الملجأ. حاجات تافهة غدت في حينها ترفاً للداخلين من الموت فوق الأرض إلى الحياة تحتها.

الحروب التي تلت رأيناها بأعيننا تكبر وتتسع سنة بعد سنة. سمعنا أصوات إطلاق قذائفها وصواريخها وما يليه من هبوط للحطام. شممنا بأنوفنا رائحة البارود، والتصق غبار الدمار ثقيلاً فوق جلودنا الرقيقة.

حروب توالت. خفت وتيرتها وتباعدت من دون زرع شعور بالأمان فينا بأنها لن تعود. كانت آخر حرب إسرائيلية شهدناها في تموز 2006، وكان ذلك قبل ثلاث سنوات من ولادة ابني البكر، جميل هذا العالم والكون. ثم رنا راني إلينا في العام 2017.

بين الحرب الإسرائيلية الأولى والأخيرة، عشنا في بيروت، بربور، النويري، ورأس النبع والأشرفية، عصراً ذهبياً من دون أن ندري. ولو كنا ندري، لعصرناه حتى آخر قطرة. أتكلم عن نفسي على الأقل. بين العامين 1992 و2005 لا توجد صورة في وعيي الفردي عن انقطاع الماء والكهرباء. كنت إذا كلمت أحداً من أصدقائي وقال لي، مثلاً: "مش عم تجي المي إلا فترة" أو "هيدي اشتراك مش دولة"، لا أفهم عماذا يحدثني، وأشعر كأنه جاء من زمن بعيد، بعيد جداً. كانت كل قصة عن "انقطاع" تأتيني من خارج دائرة جغرافيتي تبدو لي دخيلة على حقلي المعجمي المعتاد. فأقف مترددة على حافة سؤال: "قديش السنة معك؟"، مستحضرة مسرحية "شي فاشل"، عندما "كَبَسَ" أبو الزلف الحقيقي المخرج الموهوم، وهدده وتوعده إن لم يكف عن جرّ الزمن إلى الوراء.

سألت منذ يومين: "عماذا نكتب يا جماعة؟ أعطونا أفكاراً". فرد توأمي البيولوجي ورفيق عمري الأول: "اكتبي عن السيترن".

أكتب الآن إذن عن السيترن. لماذا اختفى واحد من أشكال معاناة المُعاش في الحروب، خلال مراهقتي، وعاد ليظهر بقوة في طفولة أولادي، أيام السلم؟ وهل لشيء واحد الدلالة نفسها بين جيلين؟ بين ولدين؟

أفكر في السؤال الأول. أراني أوصله بسؤال جديد: هل الزمن مشطور إلى شطرين، وهذا حكمه الطبيعي في مدينة مشطورة دائماً؟

أنا أكره السيترن، هذا الشيء القديم والبشع. في فترات جفاف آب، ومع تصاعد الحر إلى أوجه، يبعث فيّ هدير الصهريج المتواصل تعباً. تعب من تاريخ لا بد أن يعلكنا ما دمنا مواطنين في آلاته، حتى لو كنا سلميين وعلمانيين ومدنيين، فنحن في النهاية: "جزء من هذا الشعب".

ابني الصغير، مثل كل الصبيان، يحب السيارات وأنواعها. عندما يأتي السيترن يركض إلى البلكون ليتفرج عليه. هو المكتشف الجديد للكلام واللغة والتواصل، يبدأ بسرد ما يراه بحماسة عن الرجل الذي يكر النبريش ويرفعه أو يمده ثم يعيده ليضبه.

ابني الكبير، ليس كمثل كل الصبيان. يركض إلى الغرفة ويضع أصبعيه في أذنيه. هو يستشعر الأصوات خمس مرات أقوى منا.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024