تحقيق استقصائي في الآثار: جواد عدرا واللوفر والدولة

منى مرعي

الثلاثاء 2019/04/30

بشكلٍ عام، تصطدم القوانين والتشريعات والاتفاقيات الدولية والمعاهدات بالواقع على الأرض. تذكرُ هيلين صادر، في محاضرتها في ASOR، أن الإتجار بالآثار يعتبر ثاني أضخم إتجار غير مشروع في العالم، بعد الإتجار بالمخدرات. ويذكر تقرير أنيليس باولز، الذي تشاركته مكتبة الأمم المتحدة، تورط داعش والنظام السوري على حدّ سواء في الإتجار بالآثار. في حالة داعش، "تشكل الآثار في كل من العراق وسوريا مورداً من الموارد المادية الأساسية لتنظيم عمل الدولة الإسلامية"، ولشراء السلاح على الأرجح. هنالك شبكة عالمية تربط السارق بالتاجر المحلي بعملاء دوليين وبأفراد يرغبون بشراء القطع. ووفقاً لصادر، طالما هنالك من يدفع المال لشراء القطع الأثرية، وطالما هنالك فقر، فستستمر هذه المعضلة التي تعود جذورها إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فيما يتعلق بلبنان. تربط صادر الإتجار غير المشروع بالآثار بتهافت الدبلوماسيين الأجانب، ولاحقاً المحليين على الآثار. في محاضرتها، تعود صادر إلى القنصل الفرنسي بريتييه، الذي أمر وقام عام 1855، بتمويل حفريات غير مشروعة في قطعة أرض تعود إلى مواطن في صيدا، حيث تمّ الكشف عن تابوت للملك الصيدوني اشكونزا الثاني. عندما تمّ الكشف عن التابوت، ادعى بيريتييه ملكيته للتابوت. الأمر الذي أثار جدلاً حينها بين الإنكليز والفرنسيين ما أدى إلى إقفال الموقع من قبل العثمانيين. أصبح تابوت الملك الصيدوني اليوم في متحف اللوفر.

عائلتا فرح ودير غيللو و"اللوفر"
يقتني متحف اللوفر عدداً لا بأس من القطع الأثرية من صيدا وصور. وقد تم بيع بعضها منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين من قبل عائلتي فرح وديرغيللو. وفقاً لمقالة بحثية لإليزابيت فونتان وردت في المجلة الأكاديمية الآثار والتاريخ في لبنان ، قدمت عائلة ديريغيللو الإيطالية الأصل والتي استقرّت في صيدا حوالى 370 قطعة أثرية لللوفر. بينما قدمت عائلة فرح التي عاشت في صور ما يقارب 144 قطعة أثرية. بعض تلك القطع تمّ بيعها على مرأى ومعرفة من بعثة رينان الفرنسيةLa Mission de Phénicie، التي تمت بين عام 1860 و1861. تختم فونتان مقالتها قائلةً "إن البعض قد يندهش كيف تمكنت مؤسسة مشرّفة كاللوفر، مدعومة من المجتمع العلمي، من تشجيع حفريات سرّية والإتجار بالتحف. ولكن وجب وضع الوقائع في سياقها الزمني، وهو زمن الرواد في البحوث الأثرية. الاهتمام الذي أبداه متحف اللوفر، سمح بإنقاذ ما كاد الجهل أن يدمره من دون رجعة. تشكل الخمسمئة قطعة أثرية التي أوتيت إلى اللوفر، بواسطة العائلتين المذكورتين، مدماكاً أساسياً لقسم الآثار الشرقية". استمرت عملية الإتجار بالآثار ولم تتوقف حتى تاريخ اليوم.

مجموعة كميل أبو صوان ودائرة الآثار
عام 1980، سُرِق ما يزيد عن خمسمئة قطعة أثرية من مخازن المديرية العامة للآثار في جبيل. عام 1991، نشر روبرت فيسك مقالة بعنوان " السوبرماركت الأكبر في لبنان"، في صحيفة الإندبندنت البريطانية، مشيراً إلى عملية الإتجار بالآثار. ذكر فيها أن هنالك ما يزيد عن 11 طناً من القطع الأثرية اليونانية والرومانية والبيزنطية خرجت من لبنان، ووصلت إلى ابسويتش في المملكة المتحدة. كما يذكر أنه تمّ اكتشاف عشرين ألفاً من التماثيل الطينية الفينيقية، في مقابر البرج الشمالي في صور. وقد تمّ تصديرها بشكل سري إلى أميركا واليابان. وكان وجودها في الأسواق العالمية منتشراً لدرجة أن التماثيل الفينيقية بيعت بما لا يتعدى ستين دولاراً. كما وجد اثنين من تماثيل "أطفال إشمون" (الذين تمّ اكتشافهم في حفريات صيدا عام 1960) في زوريخ. هكذا، أصبح قسمٌ وازن من الآثار اللبنانية خارج البلاد، وقسمٌ آخر بات يعود لمجموعات خاصة لدبلوماسيين وسياسيين ورجال أعمال لبنانيين. عام 2002، وفق ما ورد في صحيفة لوريان، وهب كميل أبو صوان، وهو دبلوماسي لبناني وسفير لبنان في اليونيسكو، مجموعته الأثرية الخاصة، التي يبلغ عددها ما يزيد عن 1600 قطعة إلى متحف مدينة آجان في فرنسا. عندما سئل عن عدم منحه تلك المجموعة إلى المتحف الوطني أجاب "أتمزحين؟ سيضعون المجموعة في قبو...المديرية العامة للآثار لا تملك إلا ثلاثة موظفين"! وأسهب قائلاً أن مدينة آجان قد تكلفت مليون ونصف مليون فرنك لتجهيز الصالات. وتمت طباعة كاتالوغ فخم يخص المجموعة، بالإضافة إلى قرص مدمج. وقد استغرقت عملية البحث سنوات حول المجموعة.

أبو صوان كان قد ذاق اللوعة سابقاً من ذوي الشأن العام في لبنان: عام 1993، بعد مساع عديدة لبيع 1500 من المخطوطات والكتب النادرة، الخاصة بأبو صوان، للدولة اللبنانية بسعرٍ زهيد، قام بعد تأكده من عدم اهتمام السلطات المحلية، ببيع مكتبته لسوثبي بسعر يفوق ثلاث مرات ما عرضه على الدولة اللبنانية. وهنا لب المسألة. الأمثلة التي تؤكد هشاشة الأجهزة والمؤسسات الحكومية اللبنانية كثيرة، ولا تُحصَر في لبنان فقط. كثيرون يتشاركون رأي أبو صوان. وهنالك من يجد أن المؤسسات الحكومية في المنطقة، فيها من الضعف والفساد ما يجعل أي قطعة أثرية فاقدة لقيمتها حكماً، لأنها تصبح عرضى للإهمال أو تكدّس في المخازن، أو يتم عرضها من دون أن تبرز قيمتها كما ينبغي، إلى حد أن هنالك من يشكر الاستعمار على اكتشافه الآثار وحفاظه عليها. يضاف إلى هذا الرأي، واقع محدودية فاعلية المديرية العامة للآثار، التي لم تتحرك لاسترداد قطع أثرية تعود لمجموعات خاصة، رغم أن المرسوم 3056 يتيح لها ذلك. كما أن غياب وجود سياسة عامة تجعل الإرث الثقافي اللبناني، والآثار تحديداً، جزءاً لا يتجزأ من كيان الدولة، باعتبار أن أي مساس بالثروة الأثرية يعتبر مساساً بكيان لبنان.. وغياب التوعية والتربية، كلها عوامل تحبذ التفريط بثروةٍ قد لا تقدّر قيمتها بثمن.

ولكن مهلاً، كل هذه الحجج لم تمنع وجود بعض بوادر الأمل: منذ أشهرٍ قليلة، نجحت وزارة الثقافة اللبنانية في استعادة ثلاث قطع من نيويورك، تعود لمخزن جبيل المنهوب، ومنها قطعة من الرخام معروفة بإسم "رأس الثور"، تنتمي للعهد الفينيقي، وعمرها 2400 عام. وهي تأتي من معبد أشمون في صيدا.

في هذا السياق، هل ستتحرك المديرية العامة للآثار، لحسم الجدل فيما يتعلق بمتحف نابو. وهنا تقع على عاتقها وعلى عاتق الأجهزة القضائية، مسؤولية تبرئته أو إدانته فيما يساق ضده من شبهات؟ وما الذي يمنعها من التحرك حتى هذه اللحظة؟

لقاء الحادي عشر من نيسان
في الزيارتين الأولى والثانية، ذكر عدرا أن هنالك ما هو أبعد من قطع أثرية غير مشروعة. فالأرض التي يملكها هو وشركاؤه، والتي بنى عليها المتحف متنازعٌ عليها. وقد رُفعت 25 دعوى منذ امتلكها عدرا من قبل عائلة الراسي. وهنالك دعوى رفعها المالك السابق متهماً آل الراسي بالتعدّي على ملكه. تنوعت الشكاوى بين عدرا وآل الراسي. وتراوحت بين قدح وذم وتعدٍّ على الأملاك العامة وتزوير مستندات واعتداء ومحاولة قتل الخ. معظم القضايا لم يُبت بأمرها بعد. ويشتبه عدرا أن آل الراسي هم خلف هذه الحملة. عندما سألته عن القوانين والاتفاقيات الدولية التي وقعها لبنان، والتي تحظر الإتجار بالقطع الأثرية غير المشروعة، والمجهولة المصدر، انفعل معبراً عن أن قطعه معلن عنها لدى وزارة الثقافة ومعروفٌ مصدرها.

في مكانٍ ما، عبّر عن سخطه من اتفاقيات ومعاهدات يضعها الغرب، بعد أن يتم الاستيلاء على الثروات الأثرية للمنطقة، من دون أن يكون لكل تلك المعاهدات أي أثر رجعي. على الأقل، هو يبذل جهوداً لإعادة القطع الأثرية إلى المنطقة. وهو يعلن عنها لدى المديرية العامة للآثار. في الزيارة الثانية وضع عدرا أمامي إيصالاً جمركياً، ذاكراً أنه إيصال مرتبط بإحدى الأذون الخطية الخاصة بوزارة الثقافة، التي اطلعت عليها. بين الزيارة الأولى والزيارة الثانية كثرت الأوراق والوثائق، وصعب الحسم في أمرها. وصلت الزيارة الثانية إلى نهايتها. كان عدرا حريصاً على إقناعي، خصوصاً وأننا توافقنا منذ البداية على غياب النقاش البناء والحوار الصحي في المدينة، وعلى ضرورة بناء روابط.. حتى لو وُجِد اختلاف في وجهات النظر. وكان هنالك نوع من اتفاق ضمني بيني وبينه أن هذه الجلسة هي تمرين آخر على ما يغيب في المدينة: بالنسبة له، على الحوار أن يكون خارج تصنيفيّ "القديسين" و"الخونة". في أكثر من مكان، ذكر أنه يتحدّى كثر لمناظرة عامة، حول ما أثير في متحف نابو. وفيما كنت أخرج من مكتب الدولية للمعلومات، أحسست بتوتر عدرا. سألني إن كنت متأكدة "أنني أريد أن أكتب المقالة" أجبته "ألا تريد أن تثير نقاشاً عاماً حول الموضوع؟ فلتكن هذه المقالة فرصةً لذلك". وأنا أنتظر المصعد، كان ينظر إلى الأرض. سألته ان كان مزعوجاً من أمرٍ ما. أجابني "أجل.. ما بعرف اذا قدرت وصّلِّك اللي بدي وصلّك ياه!" (انتهى)

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024