الهجرة من المهجر... آخر أفعال عصابة المنظومة الحاكمة

نادر فوز

الخميس 2020/07/30
ديما، أم لطفلين، نالت إعجاب اللبنانيين وخطفت أنظارهم في الأول من تموز. يومها، فتح مطار رفيق الحريري الدولي أبوابه، وحطّت طائرة آتية من دبي. خرجت منها عائلة صغيرة، ترتدي فيها الأم كنزة عليها أرزة، وطفلان مدوّن على قميصيهما "آي لوف ليبانون". أحبّ لبنان. لحظة أساسية طبعت هذا اليوم وإعادة حركة الملاحة بعد موجة إقفال البلد بسبب فيروس كورونا. لقطة فعلية، معبّرة. تلخّص علاقة لبنانيين ببلدهم وسعيهم الدائم إلى الرجوع إليه مهما طالت الأزمات واشتدّت. بعيداً عن فولكلوريات الوطنية وملاحم الاغتراب، رحبانية كانت، محدّثة أو مسيّسة، ثمة رابط بين المقيمين والمغتربين. تحاول السلطة وأحزابها توظيفه بشتّى الوسائل، من دون ملل. تستغلّه بشتّى الوسائل، فتعزّز خطاب جذور الأرزة وشرايينها المنتشرة حول العالم.

قصة ديما
ديما، التي وصلت إلى بيروت مع ولديهما وزينتهما الوطنية، عادت إلى دبي. أمضت في بيروت أياماً مع أهلها وأصدقائها. وصلت وتلقّفتها الكاميرات، فقدّمت خطاباً صادقاً في الأمل وحب الوطن، ونيّة الثورة والتغيير. لكن المأساة العامة في البلاد قلبت عقلها. الانهيار الحاصل في كل القطاعات والمجالات لا يترك مجالاً للمحاججة أو النقاش حتى. أمر مسلّم به. ديما، وغيرها من المقيمين في الخارج، قادرون على رؤية هذه الانهيارات المتتالية بشكل أوضح. يمكن لمن يعيش المأساة أن يصف انقطاع الكهرباء والمياه أو متابعة يوميات حفرة في الشارع وأسعار السلع. يتماهون مع الانهيارات والظروف، إذ لا خيار غير ذلك. لكن من يأتون للزيارة، يصدمون. قرفهم ينفجر بلحظته، لا يتراكم. لا يخنعون لشعور الضعف، بل يرحلون طالما هم قادرون على ذلك.

هجرة من المهجر
قبل ساعات، كتبت ديما تعليقاً على موقع "فايسبوك" لمنشور الزميل حسين الحاج حسن، يسأل فيه عن "من يفكّر بالهجرة، أو حجز تذكرة ذهاب بلا عودة"؟ كتبت ديما أنه "نحن وعائلة لبنانية ثانية بدبي، قرّرنا نقدّم عكندا لإنو العودة للبنان للأسف صارت مستحيلة". وأضافت تعليقاً آخر، "هاي (هذه) اسمها هجرة من الهجرة". والأصحّ هي هجرة من المهجر. تقيم في دبي منذ 14 عاماً، وحسب ما تقول لـ"المدن" فإنّ "موضوع الهجرة موجود دائماً في بالي". لم يعد لبنان خياراً متاحاً لها. طفلاها يحملان الجنسية الكندية، ما يسهلّ عليها فعل الرحيل. وستفعل بوقت قريب.

"كل شيء مستفزّ"
بين الأول من تموز 2020 والأول من آب 2020، شهر فاصل غيّر مجرى حياة ديما. قلبها. "كنت أنوي العودة من بيروت إلى دبي، ثم الرجوع إلى لبنان"، تقول ديما. لكن شيئاً ما تغيّر في الفترة التي قضتها في لبنان. عادت إلى دبي وتسعى إلى الذهاب إلى كندا. تجربة قصيرة قضتها في لبنان "حيث الوضع صعب جداً، كل شيء صعب، الكهرباء، الاقتصاد، الصحة، الناس وتصرّفاتهم وانتماءاتهم". "كل شيء مستفزّ". انقلب كل الشعور بالأمان والأمل والحب الذي تحدّثت عنه ديما أمام الكاميرات لدى وصولها إلى بيروت. تكرّس الاشمئزاز، العام والشخصي، فيها وفي نفوس غيرها من المغتربين.

منظومة الإحباط الجماعي
أقل من شهر، فترة كانت كفيلة بإحباط ديما. ليس لأنها ضعيفة، لا تملك مناعة ضد الفساد والطائفية والعجز والفشل الحاصلين في البلاد. هي ابنة البلد وتعرف تفاصيله. عاشتها حين كانت هنا، وانغمست فيها أكثر بعد خروجها منه. إلا أنها تريد خياراً آخر، لها ولطفيلها وحياتها. تفعل الصواب. ولا تزال إلى اليوم تؤكد أنها ستعود سنوياً إلى لبنان، وكل ما سنحت الفرصة لها لقضاء الوقت. لإحضار أموال ولدفع المغتربين إلى المجيء بأموالهم. "حبّوا لبنان لا حكّامه"، تقول مجدداً وهي لا تبغي التشجيع على الهجرة. منظومة الإحباط الجماعي فعلت فعلها، مع ديما وآلاف اللبنانيين غيرها، ومئات الآلاف اللبنانيين القابعين في بيوتهم من دون حركة. هجّرتهم المنظومة من بيوتهم في فترات الحرب، وهجرّتهم إلى الخارج لاحقاً، وها هي اليوم تهجرّهم من المهجر أيضاً. تدفعهم إلى أبعد النقاط على الكرة الأرضية.

قالت ديما عند وصولها إلى لبنان إنه "لم أتخيّل أن أبقى في الغربة لعام إضافي من دون أن أعود إلى لبنان، من دون أن أشمّ رائحة الوطن، من دون أن أشحن طاقة قوية وحلوة، من دون تعبئة عاطفة". كلام معسول يفيض حناناً في لحظة نشوة، يعبّر عن حال أغلب المغتربين في الخارج. هنا أهلهم، مقاهيهم، طرقاتهم، وزواريب قراهم. هنا الفوضى اليومية المستمرّة، وسهولة التعاطي مع الآخرين والتواصل معهم. هنا اقتراب الطاولات في جلسات مختلفة على شاطئ واحد. وهذا كلّه تدمَّر. فهنا أيضاً، منظومة إحباط جماعي. عصابة فعلية خطفت البلد كله. عصابة خطفت من بقوا فيه لممارسة الابتزاز. تبتّز المغتربين بأهلهم العالقين. تريد أموالهم. والمغرّبون مشاعرهم جيّاشة. مساكين إلى حين يقرّرون العكس، إلى حين يفيقون من صدمتهم.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024