شبعا - عين سعادة: الفدائيون والقبلة المسيحيّة

محمد أبي سمرا

الأحد 2019/08/25
لم يبقَ في ذاكرتي من سني طفولتي الخمس الأولى في قريتي الجردية شبعا، حيث ولدتُ سنة 1961، سوى صور ضئيلة يكتنفها غموض ضبابي يشبه المنامات. في واحدة من تلك الصور، أنا ووالدي على ظهر حمار يدبّ بنا في شعاب دروب مزارع شبعا الوعرة. وفي صوتي لا أزال أسمع اليوم أصداء خشونة نبرة الرعاة الحادة الجرداء. فبين رجال عائلتنا وشبّانها، كان يكثر رعاة الماعز الذين يسرحون بقطعانهم في الجرد صيفًا، وينقلُ اليهم إخوتُهم وأقاربهم الزاد والماء على البغال من الضيعة إلى الجرد في رحلات يومية تقريبًا. أما في الشتاء فكان الرعاة ينتجعون بقطعانهم في مزارع شبعا وبلاد بشارة (جبل عامل).

كان والدي وعمّي من هؤلاء الرعاة. لكن عملهما لم يقتصر على الرعي، فأضافا إليه الاتجار بالماشية في الأسواق الأسبوعية والموسمية المتنقلة بين قرى العرقوب، ثم افتتح كلٌّ منهما ملحمةً في الضيعة. لكن تضاؤل أهالي ضيعتنا المقيمين في غير فصول الصيف، بسبب تدافع موجات المهاجرين منها إلى بيروت والكويت في خمسينات القرن العشرين وستيناته، ضيّق عمل والدي في ملحمته، ودفعه إلى اللحاق بركب المهاجرين في العام 1966. خالتي وزوجُها الذي كان عاملًا في فندق البستان ببيت مري، ويقيمان مع أولادهما في عين سعادة، شجعا والدي على الرحيل من الضيعة، فتدبّرا له عملًا في مصنع بلاستيك بضاحية الدورة البيروتية، كان وكيلُه المسؤول عن العمال رجلًا من ضيعتنا.

قطيعة 45 سنة
في عين سعادة، وفي مدرسة راهباتها الأنطونيات المارونيات، بدأتْ طفولتي، كأنني فيهما ولدت العام 1966. فالمنزل الأول المرسومة معالمه قوية واضحة في ذاكرتي ومخيلتي، كان عند مدخل عين سعادة، على مسافة عشرة أمتار من مفرق رومية، حيث مزارٌ صغير للسيدة مريم العذراء، قربُه درج صغير ينزل إلى بيتنا الحجري العتيق المؤلف من غرف ثلاث، تعلوها غرف مثلها كان يقيم فيها خوريان وراهبة، مسنّون ومن أصول حلبية.

في الأمس، بعد 45 عامًا على رحيلنا عن بيت طفولتي هذا، توقفتُ في الطريق الصاعدة من المكلس إلى بيت مري، لأرى ماذا حلّ بذلك البيت الذي سكنّاه، أبي وأمي وأختين وأخ سواي أكبر مني، وأنجبتْ أمي فيه صبيين آخرين. من مسافة 45 سنة نظرتُ إلى بيتنا الحجري العتيق، فإذا به على حاله، لكن مهملًا مهجورًا، وأمامه بارَ ذلك البستان وخلا من أشجار التفاح والدراق. لا بد أن الخوريين والراهبة ماتوا، فكرتُ. لكنني لم أستطع تخيّل مصير مالك البستان، أبو الياس البيطار، الذي أجَّر للمرحوم والدي الطبقة الأولى من بيته العتيق. في الأعلى رأيت المنزل الجديد الواسع، الذي كان يسكنه أبو الياس وأسرته، مقفلًا كأنما منذ زمن بعيد. بركة الماء أمامه ناشفة وتشقّقت جهة من جدرانها. لا أدري لماذا فكرتُ أن أولاد أبو الياس هجروا لبنان، ومن جيراننا أيام طفولتي تذكرت أسرة درزية من قرية شويّا القريبة من ضيعتي في العرقوب.

خجل الغرباء
جميلة وأليفة كانت طفولتي في عين سعادة ومدرسة راهباتها. فيهما عشت أجمل أيام تلك الطفولة، بل أجمل أيام حياتي كلها، ما بين 1967 و1973، على الرغم من شعوري العميق بأنني كنت وحيدًا وغريبًا بين جيراننا الذين كانت كل أسرة منهم تعيش في هدوء وسكينة، منصرفة إلى شؤونها بين جدران بيتها. مثلُهم، وعلى إيقاع حياتهم اليومية ومواقيتها وطقوسها عشنا، فتطبّعنا بعاداتهم ونمط علاقاتهم. بعد الظهر، في نهارات السبت والأحد خصوصًا، كان سكون قيلولة العصر يهيمن على محيط بيتنا، فيشعرني بالفراغ والوحدة. كنا نمتنع عن جَرْحِ ذلك السكون، لئلا نظهر شاذّين عن عادات محيطنا في دعته العادية المطمئنة. عن خجل امتنعنا، لا عن قسرٍ أو إرغام، فلم نكن في البيت نرفع أصواتنا أو نصرخ، ولا نلعب ألعابًا صاخبة. أما اللعب في الشارع فلم يكن من عادات أولاد عين سعادة، ونحن بدورنا لم نقْدِم عليه قط. الزيارات واللقاءات بين الجيران، وكذلك قدوم أهلهم لزيارتهم، كانت لها مناسباتها ومواقيتها المتباعدة.

اختلفت حياتنا في عين سعادة، عنها في ضيعتنا شبعا التي تركناها خلفنا، وكنا نعود إليها في عطل الصيف. هناك كنا، نحن أولاد الأقارب والجيران، نلعب زمرًا قرب البيوت وفي الأزقة، فيما ينصرف أهلنا إلى أعمالهم الرعوية والزراعية الصيفية، وزياراتهم العائلية الموسعة. لكن عمل والدي اليومي الدائم في مصنع البلاستيك في الدورة، وانشغال أمي بما تخبزه يوميًا من أرغفة خبز الصاج المرقوق أمام بيتنا، لتوزعه على زبائنها في عين سعادة، قلّلا من مواسم اصطيافنا في ضيعتنا.

في الرابعة عشرة من عمرها تزوجت أختي الكبرى من إبن عمي، فنقلها إلى بيت أهله في شبعا، قبل سفر شقيقتي الأصغر منها مع خالي وعائلته، للعمل في الكويت. هكذا صرت كبير إخوتي الأربعة، والمسؤول عن رعايتهم في أوقات غياب أبي وأمي عن البيت.

شعوري بالفراغ والوحدة في حياتنا البيتية بين الجيران، كان ينقلب شعورًا بالراحة والامتلاء في مدرسة الراهبات الأنطونيات. ففي سنتي المدرسية الثانية صرت من التلامذة المتفوقين، بعدما داومت معلّمة اللغة الفرنسية على ضربي قصاصًا لي، كلما نطقتُ نطقًا غير صحيح أي حرف أو كلمة فرنسية. كنت أشعر شعورًا غامضًا أن ضربات عصاها على يديّ تنطوي على نفور غريزي من عاهة أو وصمة خِلْقيّة وأخلاقية تتشبث بي، وتريد تقويمها أو طردها من جسمي. حتى الآن لا يزال اسم تلك المعلّمة، سهى شعنين، ووجهها الجميل، محفورين في ذاكرتي، من دون سواهما من أسماء المعلّمات والراهبات ووجوههنّ جميعًا في سنواتي المدرسية الخمس كلها. كانت مسنّة وغير متزوجة، وفي بدايات دخولها إلى الصف الابتدائي الأول، ألهبت عصاها يديّ، حينما سمعتني ألفظ حرف P كما يُلفظ حرف B في كلمة la Porte، فاستمرت تقوّم بعصاها نطقي وأخطائي في اللغة الفرنسية، حتى صرت من التلامذة الأفضل في صفها نهايات تلك السنة المدرسية.

على خلاف معلّمة اللغة الفرنسية كانت الراهبة الرقيقة والجميلة التي تدخل مثل سنونوةٍ إلى قاعات التدريس لتتفقد هندامنا ونظافتنا، فتقول بصوتها اللطيف لهذا أو ذاك من التلامذة الصغار: "بكرا لازم تقص ضفيرك، حبيبي، ما تنسى"، أو "لازم تقص شعرك نهار السبت". كان صوت الراهبة وحضورها يشعرانني براحة تُدخل رقة خفيفة إلى روحي وجسمي، كتلك التي كنت أتحسّسها في نظافة التلامذة وترتيبهم، وأشمّ روائح عطرها تفوح من أجسام المعلمات والتلميذات. ولأشمّ مثل هذه الروائح الغريبة في جسمي اشترى لي والدي زجاجة كولونيا. فوالدي، على رغم تعبه في عمله وضآلة دخله، كان يحرص على أن نكون غير مختلفين عن أقراننا من التلامذة وننجح في المدرسة. حتى أنه قال لي ولإخوتي أن نتلافى ترداد القَسم بـ"حياة القرآن"، أو "حياة النبي محمد" في مدرستنا، ونكتفي بالقسم بـ"حياة الرب".

قبلة مسيحيّة
أسماء التلامذة المسيحيين كان لها وقع غريب في سمعي، ولا أتذكر منها الآن سوى أسماء قليلة، على خلاف أسماء أربعة تلامذة مسلمين كانوا معي في سنواتي المدرسية الخمس. أحدهم من ضيعتي شبعا، ووالده يعمل حارس مزرعة للدجاج في عين سعادة، وآخر بيروتي من برج أبو حيدر، إضافة الى تلميذ وأخته من الطائفة الشيعية. تلقائيًا ولا شعوريًا كنا نحن الخمسة على تقارب وإلفة في ما بيننا، أكثر مما مع سوانا من التلامذة المسيحيين الذين كنت أشعر بأنهم يتجنبوننا ويتركوننا وشأننا، ويقلِّلون من الاختلاط بنا. لكن هذا التباعد لم يكن حادًا في وعينا الطفلي، بل كان يبدو كأنه من طبيعة الحياة واختلافاتها الغامضة. ثم أننا كنا لا نزال أطفالًا في المرحلة الابتدائية، ولا يمتلك كل منا حياة أو هوية خاصة مدركَة بعدُ، ليشهرها في وجه النظام المدرسي المتجانس والمتين في افتراضه عدم التمييز الاجتماعي بين التلامذة، وإدراجهم في سوية عامة تستبعد الفروق الاجتماعية بينهم.

نحن التلامذة المسلمين الخمسة كنا نذهب إلى الكنيسة مع أقراننا المسيحيين، فنحضر القداس ونصلّي مثلهم. وحين قالت لنا الراهبة مرة إنّ في استطاعتنا عدم الذهاب إلى الكنيسة، وأن نسأل أهلنا في الأمر، قال لي والدي أن استمرَّ في الذهاب معهم، ففعلت. أما شعوري بتواضع منبتي ومرتبتي الاجتماعية، فكان يراودني حين أتقدم من الكشك الصغير في ملعب المدرسة، فلا أجد ما اشتريه بـ"خرجيتي" الضئيلة. لكن تفوقي الدراسي، وما أحاطتني به المعلمات والراهبات من عناية، وعزاء والدي الذي كان يقول لي إن الفقر ليس عيبًا ما دمتَ تتعلم وتنجح وستتغير أحوالك في المستقبل، كانت تقلِّل من وطأة شعوري بتواضعي بين أقراني التلامذة. ففي منتصف العام الدراسي الثاني استدعت الراهبة والمعلمات والدي إلى المدرسة وهنّأنه لمواظبتي على دروسي وتفوقي في الصف، فواظبت على ذلك حتى نهاية المرحلة الابتدائية.

في السنة الدراسية الأخيرة من تلك المرحلة، بزغت مراهقتي العاطفية، وصار اسم تلميذة من آل عبد المسيح وحضورها في الصف وملعب المدرسة، يملآنني بشعور غريب. كأني أمتلك الدنيا كلها، كلما تردّد اسمها في سمعي أو رأيتها. كان شائعا بين التلامذة تبادل صور القديسين، فرحت أستطلع أيًا من الصور تنقصُ نهاد عبد المسيح، لتستكملَ بها مجموعتها، وأجتهد في الحصول عليها واقدّمها لها وأتقرّب منها. كنت أطير فرحا كلما قبلتْ أن تأخذ مني صورة قديس من دون مقابل. حتى أنني تجرأت مرة واقتربت منها في ملعب المدرسة، قائلا لها إنني أرغب في محادثتها على انفراد. حين ابتعدنا إلى زاوية الملعب، فاجأتها وفاجأت نفسي بأن طبعت في صمت قبلةً على وجهها الذي تورّد كوجهي، وأحسست برجفة غريبة في جسمي كله، فيما كانت عينا كل منا جامدتين وتحدقان ذاهلتين في وجه الآخر.

فدائي نبعة
في نهار من أيار 1973 فوجئتُ بإحدى الراهبات المعلمات تنادي في الصف قائلة: فدائي نبعة، وين الفدائي نبعة؟ على رغم يقيني بأنني المقصود في النداء، ما دام ليس من تلميذ غيري في الصف من عائلة نبعة، تلفّتُ حولي مندهشًا، ثم وقفت متسائلًا: أنا، أنا مس؟! فقالت: نعم أنت، سمّع المحفوظات. حدث ذلك بعد أيام من عطلة مدرسية قسرية، تسبّبت بها اشتباكات مسلحة بين الجيش اللبناني والفدائيين الفلسطينيين في بيروت، وامتدت إلى محيط مخيم تل الزعتر الفلسطيني القريب من عين سعادة والدكوانة.

قبل حوادث أيار 1973 بين الفدائيين الفلسطينيين والجيش اللبناني، كانت أخبار الفدائيين الذين تكاثرت قواعدهم وأعداداهم منذ العام 1968 في ضيعتي الحدودية، تصل متواترة إلى بيتنا في عين سعادة، ينقلها إلينا بعض أقاربنا من أهالي الضيعة، فلا نعيرها اهتمامًا. لكنني لا أدري إن كنت سمعت في بيتنا بعين سعادة أخبارًا عن حوادث تتصل بتكاثر الفدائيين في شبعا، أم انني عايشتها في الضيعة بعد عودتي وأسرتي نهائياً إليها في صيف العام 1973. الأرجح أننا كنا في شبعا نصطاف لشهر أو شهرين، عندما سمعت للمرة الاولى باسم الأخضر العربي. ربما حدث ذلك في صيف 1969. وكما نتذكر منامًا، أتذكر مشهد شاب من شبعا يركض في ساحتها، صارخًا في نسوة ويشتمهنّ، قائلا: صرْخوا، صرْخوا يا شرا...، مات الأخضر العربي. لكنني في تلك اللحظة لم أفهم ما هو الأخضر العربي. لاحقا علمت أنه الإسم النضالي الفدائي لشاب لبناني يدعى أمين سعد. وهو كان معلماً في مدرسة المعهد العربي في بيروت، فترك عمله والتحق بمنظمة الصاعقة التابعة لسوريا. مع الفدائيين أتى إلى ضيعتنا، وكان من قادتهم، قبل أن يُقتل في اشتباك مع جنود إسرائيليين على تخوم مزارع شبعا.

في مدرسة الراهبات الأنطونيات كنت قد نجحت بتفوق في امتحانات شهادة السرتفيكا الرسمية. وحين علمت راهبات المدرسة بأن والدي عازم على الانتقال من عين سعادة إلى ضيعته، استدعوه، وحاولوا ثنيه عن قراره، كي أكمل تعليمي في مدرستهن، لأن انتقالي إلى مدرسة أخرى قد يكون وقعه سيئًا عليّ. لكن والدي كان قد حزم أمره تحت ضغط ضآلة راتبه الشهري وتزايد مصاريفنا المادية، بعد موجة غلاء أصابت لبنان في العام 1973. هذا إضافة إلى مخاوفه من تزايد الحوادث الأمنية الناجمة عن انتشار السلاح الفلسطيني من مخيم تل الزعتر إلى محيطه السكني المسيحي، ومن الذيول الطائفية لهذه الحوادث، في أثناء تنقله اليومي ما بين عين سعادة ومصنع البلاستيك في منطقة الدورة.

كانت خالتي أم حسين تبكي، فيما كنت أساعد والدي في نقل أثاثنا الضئيل المتواضع من بيتنا في عين سعادة، إلى شاحنة صغيرة توجهت بنا إلى شبعا في نهار من صيف 1973.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024