ماضي التعذيب والقتل في السجون اللبنانية

محمد أبي سمرا

الإثنين 2019/05/27

روت لوسي باسخيان في "المدن" (19 أيار الحالي) وقائع حادثة موت أو مقتل حسان الضيقة (44 سنة) نتيجة تعذيبه أثناء التحقيق معه بتهمة "تهريب مخدرات"، وتنقيله بين سجون مقار أجهزة أمنية وقضائية كثيرة، وصولاً إلى مستشفى "الحياة" التي توفي فيها بعدما منعت النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان علاجه، حسب إفادة والده.

وإذا كانت حوادث التعذيب والموت الراهنة، بل القتل أثناء التحقيقات القضائية والأمنية وفي السجون اللبنانية، تندرج في سياق الاهتراء والتحلل الوبائيين في الأجهزة الحكومية اللبنانية، وتحوّلها إقطاعات للمناصب والرئاسات والزعماء المقدمين بعد "دستور الطائف" (1990)، فإن اندراج حوادث التعذيب في هذين السياق والتحول لا يعني سوى اتخاذها أشكالًا جديدة في "جمهورية الطائف"، بعدما كانت عادة مزمنة تعود بجذورها إلى عهود لبنانية سالفة، على ما روى خليل خالد الفغالي المولود سنة 1934 في  ضيعة المريجة بساحل المتن الجنوبي.

فرج الله حنين شيوعيًا
والفغالي الذي كان في الخمسينات تحريًّا في جهاز الأمن العام، راوي أخبار حوادث ورجالٍ وشخصيات، يكشف تنوعها وتكرارها وكثرتها عن أحوال المجتمع والاجتماع وعمل الأجهزة الإدارية والأمنية والقضائية في لبنان النصف الأول من القرن العشرين. وتتناول مروياته أخبار رجال السياسة المحلية وزعمائها وبطاناتهم من أزلام وقبضايات ومفاتيح انتخابية، وشبكة علاقات هؤلاء جميعاً بالإدارة والمؤسسات العامة وكبار موظفيها، وبالأهالي.

ومن أخباره أن الأجهزة الأمنية في عهود بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب الرئاسية، كانت تقوم بحملات دهم واعتقال للشيوعيين بين مدة وأخرى. وعلّل الفغالي ذلك بدوافع الحرب الباردة الأميركية - السوفياتية. وفي العام 1949 تشاجر في المريجة الشاب فرج الله حنين الشيوعي (25 سنة، متعلم و"جنتلمان"،  ويتمتع بصيت حسن، وابن عم النائب والوزير إدوار حنين، لاحقا) مع الشمعوني إميل الحسيني (سائق سيارة "ستايشن" أميركية لنقل الركاب بين وسط مدينة بيروت وضيعة المريجة).

والد فرج الله كان متوفٍ وورث عنه ولداه فيكتور وأسعد متجراً للأسمدة الزراعية والعلف والسمانة في المريجة. ومن كان يملك مثل ذلك المتجر، كانت أحواله المعيشية مرموقة و"بيته في رأس القلعة" في زمن ساحل المتن الجنوبي الزراعي ذاك.

كان الشاب الشيوعي راكبًا في سيارة الحسيني الشمعوني عندما تشاجرا: قال الأول إن السائق شتم الشيوعية، وقال الثاني إن الراكب شتم الرئيس كميل شمعون والشمعونية، فأنزل الحسيني الراكب حنين من سيارته وأوسعه ضربًا مبرحًا، فعاد إلى منزله في المريجة مدمىً. وهذا ما حمل أخاه فيكتور على الانتقام من الحسيني، فحمل مسدسه وانتظره في ساحة الضيعة، ثم حمله على الترجل من سيارته. تلاسنا في البداية وتشاتما تهيؤاً لعراكهما الجسدي. لكن فيكتور سرعان ما شهر مسدسه وأطلق منه رصاصة أصابت الحسيني في فخذه،  فنُقل إلى المستشفى، فيما لجأ مطلق النار إلى منزل الياس الصوري في المريجة.

كان الصوري أشهر الأزلام أو القبضايات التابعين في ساحل المتن الجنوبي للزعيم الكاثوليكي والنائب والوزير هنري فرعون الشمعوني، أو حليف كميل شمعون، فحمى فيكتور حنين من مضاعفات الحادثة البلدية المحلية: اصطحبه إلى مخفر الدرك، ورعاه أثناء توقيفه ليوم أو اثنين، قبل إخلاء سبيله إثر تدخل هنري فرعون مع الأجهزة الأمنية والقضائية. ثم جرت في المريجة مصالحة بين العائلتين برعاية الصوري وفرعون الذي لم يكن يفوت مناسبة عزاء في المريجة وبرج البراجنة من دون حضوره إلى منزل آل الفقيد.

... فقتيلًا
بعد نحو سنتين جرت حملة دهم واعتقال للشيوعيين في نهاية عهد الشيخ بشارة الخوري الرئاسي، فاعتقل الشاب الشيوعي فرج الله حنين في المريجة. ويرجّح الراوي الفغالي أن  الأمن العام أو شرطة بيروت أو قوى الأمن الداخلي هي الأجهزة التي كانت منوطة بحملات الدهم والاعتقال، لأن جهاز مخابرات الجيش لم يكن يتدخل بعدُ في أمثال تلك الحملات والقضايا.

ضُرب المعتقل الشيوعي وعُذّب طوال عشرة أيام ورمي في سجن الرمل حيث توفي متأثرًا بمضاعفات العنف الجسدي الذي تلقاه من عناصر الأجهزة الأمنية والسجانين، وبالإهمال الطبي التام في إيام اعتقاله وسجنه. سُلّمت جثته إلى أهله وبعض معارفه في المريجة، ومنهم الراوي الفغالي، فحملوه إلى بيت عائلته في الضيعة، حيث شُيّع إلى مثواه الأخير في جنازة مشهودة مهيبة حضرها الياس الصوري وهنري فرعون وكثرة من الشيوعيين يتقدمهم أنطون تابت. وجرت لفلفة الجريمة وتسوية تبعاتها بتدخلات السياسيين على رأسهم هنري فرعون، وكأن شيئاً لم يكن.

مكث فيكتور حنين، شقيق القتيل، في متجره للأسمدة الزراعية والعلف والسمانة بالمريجة حتى هاجر إلى كاليفورنيا سنة 1987. وقبل وفاته هناك سنة 2003، أوصى بأن يُدفن إلى جانب أخيه في مدافن العائلة في الضيعة، فنُقل جثمانه من أميركا إلى بيروت، وكان أول من دُفن في مقبرة المريجة الجديدة التي أنشئت بهمة رئيس بلديتها يوسف متى.

أرشيف الكتائب
لم تتوقف حملات الدهم والاعتقال في عهد فؤاد شهاب الرئاسي (1958-1964)، لكنها أخذت تشمل إلى الشيوعيين، المحازبين السوريين القوميين والبعثيين أحياناً. وفي العام 1961، بعد المحاولة الانقلابية السورية القومية الفاشلة على الرئيس شهاب، اكتشف جهاز الأمن العام أن أرشيفه الذي يحوي أسماء المحازبين السوريين القوميين، قديم ولم يجرِ تحديثه منذ بدايات الخمسينات، أي طوال عهد كميل شمعون الرئاسي الذي سانده حزب أنطون سعادة ضد "الثورة" العروبية و"ثوّارها" عليه في العام 1958. لذا استعان الأمن العام بمدونات أرشيف حزب الكتائب اللبنانية الموالي للعهد الشهابي، للحصول منه على أسماء المحازبين السوريين القوميين الذين كان تزايد أعدادهم بطيئا طوال الخمسينات.

وروى الفغالي أن جهاز الأمن العام أرسله إلى مقار حزب الكتائب اللبنانية في ساحل المتن الجنوبي (المريجة، حارة حريك، فرن الشباك) للاطلاع على مدونات أرشيفها تمهيدًا لقيام الأمن العام بحملة اعتقال المحازبين القوميين السوريين، فإذا بالارشيف الكتائبي منظم تنظيماً دقيقاً ويحوي أسماء الشيوعيين والبعثيين، إضافة إلى المستجدين في حزب الزعيم أنطون سعادة الراحل إعداماً في العام 1949.

آل سعادة المنقسمين
ومن ملاحظات الراوي أن عددًا لا باس به من آل سعادة الموارنة في المريجة كان أسماؤهم في عِداد المحازبين السوريين القوميين الجدد في الأرشيف الكتائبي. وعلّل الفغالي إقبالهم على حزب الزعيم بناء على الكنية العائلية التي تجمعهم به، عِلمًا أن أنطون سعادة ينتسب أصلا إلى عائلة مجاعص الأرثوذكسية في ضهور الشوير.

ومن مرويات الفغالي عن آل سعادة الموارنة في المريجة أنهم كانوا منقسمين في ولائهم السياسي والحزبي. ففيليب سعادة ابن عم الدكتور بشارة سعادة المحازب القومي السوري، كان نقيب المحامين في وقت إنشاء جامعة بيروت العربية في الطريق الجديدة مطالع الستينات، وشروعها في تدريس الحقوق باللغة العربية، وفق المنهاج المصري. وهذا ما حمل جامعة القديس يوسف على الإضراب مع نقابة المحامين، فتعطّلت المحاكم، بحجة أن تدريس الحقوق والقانون بالعربية يحط من مستوى التعليم والقضاء في لبنان. ومن ملاحظات الراوي الأخيرة أن نخب آل سعادة كانوا يحازبون السوريين القوميين والكتائب، بينما يحازب عامتهم في المريجة الشيوعيين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024