تصليحها لا يُحتمل: الفقراء يبيعون سياراتهم

فرح منصور

الأحد 2021/11/21

أدّت الأزمة الماليّة اللبنانيّة إلى تغيّر أولويات المواطنين، فصبّت كلّ اهتماماتهم على سبل تأمين الطعام والشراب والمسكن. وإثر الارتفاع الجنوني للدولار الأميركي وما نتج عنه من تضخّم مالي وارتفاع الأسعار وموت المداخيل، لم يعد بمقدورهم تأمين كمالياتهم التي اعتادوها سابقاً. وبعد أن كان شراء سيارة سهلاً لأي فرد، ووسيلته للترفيه ولتيسير أموره اليومية.. يلجأ لبنانيون كثر اليوم إلى بيع سياراتهم أو ركنها تحت منازلهم، بسبب عدم قدرتهم على تصليحها.

وفي حديث "المدن" مع محمد فلاحة، وهو صاحب كاراج لتصليح السيارات، إضافة إلى بيع قطعها، يقول إن الأزمة الاقتصادية أدّت إلى تراجع عمله بشكل كبير. فالكثير من زبائنه كانوا يقصدونه كل أسبوع أو أسبوعين لتصليح أي عطل صغير، أما اليوم فهم لا يأتون إلاّ عند انعطاب سيارتهم نهائياً. كما أنهم لطالما اعتمدوا على صاحب الكاراج لتأمين قطع السيارة. أما اليوم، وأمام أي عطل يصيب سياراتهم، يبدأون بمرحلة مقارنة الأسعار بين عدة محلات، باحثين عن الأرخص سعراً حتى ولو كان الفرق دولاراً واحداً.

أسعار ثابتة ودولار متغيّر
يقول محمد أن أسعار قطع التصليح بقيت على سعرها السابق، ولكن ارتفاع الدولار هو السبب الرئيسي في هذه الفوضى. فسعر قطعة ميكانيكية سابقاً كان 100$ أي مئة وخمسون ألف ليرة، أما اليوم فسعره يصل لمليونين وثلاثمئة ألف ليرة. أما إطار السيارة، فسعر الواحد منها  يتراوح بين 30 و50 $، أي 45 ألفاً و 75 ألفاً سابقاً. واليوم يتراوح بين سبعمئة أو مليون ليرة. وإثر هذا التفاوت الكبير بالأسعار، انخفضت كلفة اليد العاملة للتصليح. فبعد أن كنا نأخذ على تركيب الموتير 100$ كلفة اليد العاملة، أصبحنا نطلب أجرتنا بالليرة اللبنانيّة ولا تتعدى 30 $ أي 500 أو 600 ألف ليرة، مراعاةً لوضع الزبون.

أما نوعية الزبائن فمختلفة، البعض يتقاضى راتبه بالدولار الأميركي، وبالتالي يقوم بتصليح سيارته والدفع بالدولار. أما أصحاب سيارات الأجرة، فكانوا سابقاً يستبدلون القطع المتعطلة بقطع جديدة، واليوم فيطلبون قطعاً مستعملة أقل سعراً. وأصحاب الدخل المحدود يطلبون تصليح سيارتهم وتسديد ثمنها لاحقاً، وغالباً ما يماطلون أو حتى يرفضون التسديد بسبب الارتفاع المستمر للدولارالأميركي. ولذا، قد رفع لائحة شروط أمام محله، منها: "الدين ممنوع خاصةً للأصدقاء"، وأنه يمنع تسليم أي سيارة من دون الإنهاء من تسديد ثمن التصليح بالكامل، وذلك لحماية نفسه من الخسارة. ويضيف بأن هناك تلميحات إلى رفع كلفة الجمرك. وهذا الارتفاع سيؤثر كثيراً على سوق السيارات. فتلقائياً سترتفع الأسعار بشكل كبير ولن يكون لدى الجميع القدرة على تصليح أي عطل صغير يطرأ على سيارته.

تجارب مريرة
يشكو لنا علاء عن معاناة الشباب في هذه الأزمة، وهو شاب في أوائل العقد الثالث، متزوج وأب لطفل لم يبلغ عامه الأول، وهو المعيل الوحيد لعائلته بعد وفاة والده. يعمل في محل مبيعات في بيروت، وكان حلمه منذ الصغر أن يشتري بيتاً وسيارة ليعيش حياةَ كريمةً، ولكن ظروفه المادية لم تسمح له سوى بإقتناء سيارة صغيرة. يتقاضى شهرياً مليونيّ ليرة، ويتلقى مساعدات صغيرة من بعض "الأيادي البيضاء". ما أن ينصرم منتصف الشهر حتى يتبخّر الراتب؛ فإيجار بيته مليون ليرة ويحتاج أسبوعياً لأكثر من 300 ألف ليرة ثمن حليب لطفله، و700 ألف رسم اشتراك كهرباء، وأما الباقي فلا يكفي لأدوية والدته التي تعاني من السكري، والتي يصل سعر العلبة الواحدة إلى 240 ألف ليرة. على الرغم من عدم امتلاكه لنمرة أجرة حمراء، إلا أنه بسبب الحاجة كان يستعمل سيارته الخاصة لتوصيل الزبائن بعد الانتهاء من دوامه، واضعاً عليها علامة "التاكسي"، ومتجولاً فيها في أنحاء بيروت.

يقول علاء أنّ الحظ لم يحالفه طويلاً، فعطل مفاجئ أصاب السيارة وتبيّن بعد فحصها بأن الموتور قد أعلن أنفاسه الأخيرة، وتكلفة تغييره تتراوح بين 180$ و200$. وبما أنه يعاني من وضع مادي صعب، فهو عاجز عن تصليحها خاصةً وأن الدولار في ارتفاع يومي. ركن سيارته لعدة أيام تحت المنزل، وبات يتنقّل لعمله عبر فان رقم 4 بتكلفة 10 آلاف ليرة. ولكنه لا يوصله إلى عمله، بل يضطر إلى إكمال طريقه سيراً على الأقدام حوالى 10 دقائق ،وذلك تجنباً لأخذ سيارة أجرة ودفع 20 أو 30 ألف ليرة. وأمام كل هذه المصاعب لم يكن أمامه أي خيار سوى بيع السيارة خاصةً، بعد أن وصل سعر صفيحة البنزين إلى 319 ألف ليرة، وبالتالي فهو عاجر عن تعبئة الوقود أسبوعياً. لذا، قام ببيعها بـ2500$، ويفتش اليوم عن أي وسيلة لاستثمار هذا المبلغ حتى يستطيع من جديد شراء سيارة أخرى.  

..وداعاً للنزهات
أما أحمد فرحات فيروي لـ"المدن"عن استبدال سيارته المرسيدس بسيارة كيا، وهو موظف في شركة. وقبل بداية الأزمة الاقتصادية كان يتقاضى 2000$ أي 3 ملايين ليرة، وقام بسحب قرض وشراء سيارته المفضلة. ومع تضخّم الأزمة المالية، لم تعد تساوي الـ3 ملايين شيئاً أمام الارتفاع الجنوني للأسعار. كما لم تقم الشركة برفع الرواتب بل أبقتها على حالها. وهو متزوج وأب لأربع أطفال، وفي العقد الرابع من عمره، ويحتاج لمصاريف شهرية عالية ما بين تكاليف تعليم أطفاله، ودفع قرض إسكان بيته، ورسم مولد الكهرباء. كما يحتاج أسبوعياً إلى تزويد سيارته بالوقود للتنقل إلى عمله وإيصال أولاده للمدرسة، ويستعين بما يصله من مبالغ مالية صغيرة بين فترة وأخرى من شقيقه المستقر في فرنسا. وأمام الارتفاع الكبير لسعر صفيحة البنزين، وسيارته تحتاج لأكثر من 4 تنكات شهرياً على الأقل، ولأن تصليحها بات باهظ الثمن، وهو الشديد الاهتمام بها، ويقصد الميكانيكي باستمرار لتصليح أي عطل من دون الإكتراث للتكلفة.. يقف اليوم عاجزاً أمام الدولارالأميركي. فبعد أن تعطلت سيارته واحتاج إلى قطع جديدة وصلت تكلفتها إلى 120$ ، قام ببيع سيارته واستبدالها بسيارة كيا، كونها لا تحتاج إلى تكاليف باهظة كسيارته القديمة. ويقول: سابقاً حينما كنت أشعر بالملل أستقل السيارة وأقوم بنزهة وأنا أستمع لأغنياتي المفضلة، أما الآن فلا أشغل محرّكها سوى لقصد العمل أو للضرورة، وذلك مخافة من الأعطال المفاجئة.. فهذا البلد حرمنا من النزهة الصغيرة! 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024