سوري في لبنان: الروشة والطائفية وموتور الكهرباء (2)

قتيبة الحاج علي

الإثنين 2019/03/18
يستغرق الطريق في المعتاد أربع ساعات بالسيارة. لكن طريقي، كان فيه ثلاثة مهربين وسيارتين وقليلٌ من السير على الأقدام، ورحلة ممتدة على يومين. لن أدخل في دهاليزها، لكنها كانت كما وُصفت لي بالضبط، فـ"المُهَرِّبُون" هنا أصحاب "كار" (مهنة)، منعدمو الأخلاق وتجارٌ للبشر والدم. لكنهم كما رددوا على مسامعي كثيرًا: "صادقون مع زبائنهم".

جسر الكولا
بعد الوصول إلى أول بلدة لبنانية، اشتريت رقمًا لبنانيًا لهاتفي على الفور. علمت لاحقًا أن البائع قد استغل جهلي، وباعني إياه بـ20 دولار زيادة على ثمنه الحقيقي. لم تكن الرحلة قد انتهت. فالاتفاق أن أصل إلى "جسر الكولا" في بيروت. بدأت إجراء بعض الاتصالات عبر الانترنت إلى درعا. أريد أن اطمئنهم أنني خرجت من سوريا، و"رحلة الموت" هذه قد شارفت على نهايتها.

ساعات قليلة داخل الأراضي اللبنانية وبين طرقها الجبلية، ووصلت بعدها إلى "جسر الكولا"، أو كما قال المُهرب مستهزئًا: "هذا جسر الرئيس، نسخة بيروت"، مُشيرًا إلى "جسر حافظ الأسد" في وسط دمشق، أو ربما كان يريد القول: "عليك ألا تنسى أن الأسد موجودٌ هنا أيضًا". تملكني هذا الاسم لاحقًا، حتى أنني أخطأت يومًا، وطلبت من أحد سائقي التاكسي أن يقلني إلى "جسر الرئيس".

أَبْلغنا الوسيط في درعا بانتهاء "الصفقة"، ليُسلّم المبلغ إلى الطرف الآخر. غادرت السيارة ونطق لساني بكلمة "شكرًا" بصعوبة بالغة. حددت مكاني من خلال الخريطة، واتجهت إلى الغرفة، التي تكفل أحد الأصدقاء باستئجارها بالنيابة عني.

وصلت إلى العنوان المطلوب، الذي لا يبعد كثيرًا عن "جسر الكولا". لم يكن معي إلا حقيبة صغيرة من الأغراض، جلست قليلًا ثم تنفست الصعداء، قبل أن "تذهب السكرة وتأتي الفكرة"، لأدرك أن هذا كان آخر عهدي بسوريا، التي لا أظن أنني سأعود إليها قريبًا. أنا وحيد في مكان لم آلفه وبين أناس لا أعرفهم. كان يجب أن أشعر بالسعادة و"الانتصار". فقد خرجت سالمًا من بين أيدي النظام. لكن مشاعر الصدمة والانهيار النفسي كانت قد احتلتني بالكامل.

الـ"نحن" و"هم"
ثلاثة أشخاص فقط في لبنان، كانوا على علم بتفاصيل ما حدث معي في درعا. أطلعتهم على نيتي بالقدوم إلى بيروت في وقت سابق. لكن لم أحدد لهم موعد الوصول، والذي بالكاد كنت أعرفه. كنت مترددًا بالاتصال بهم. جميعهم من العاملين في المجال الإعلامي والحقوقي في بيروت، والذين تعرفت عليهم أثناء عملي داخل درعا. كنت واثقًا من تأييدهم للثورة وبأنني لن "أُغدر" من جانبهم، لكني كنت أخشى أن "أورطهم" بقصتي.

تشجعت بالاتصال بالشخص الأول، إعلامية مرموقة تعمل في مؤسسة إعلامية معروفة، بعد الترحيب والتهنئة بالسلامة، سألتني: "في أي منطقة تقيم الآن؟" أجبتها: "لا أعلم، سأرسل لك العنوان على الخريطة، لكن كل ما أعرفه أن اسمها ليس الضاحية الجنوبية"، هناك حيث حزب الله الشريك في جريمة اقتلاعي من أرضي. كان هذا كل ما أعرفه عن بيروت: يجب ألا أتواجد في الضاحية الجنوبية أو بالقرب منها، بيروت مختزلة لديّ ولدى كثيرٍ من السوريين بـ"الضاحية" والـ"لا ضاحية"، قبل أن أدرك لاحقًا أنها أكثر تعقيدًا من ذلك.

علمت فيما بعد، أني مقيم في "طريق الجديدة"، فكان ردّها: "ممتاز.. معناها أنت في مناطقنا". لأكتشف أن في بيروت هناك "مناطقنا" وهناك "مناطقهم". لم تكن هناك حاجة للتعريف بالمقصود بـ"نحن" و"هم". فهذا الأمر بديهي في قاموس ناشط إعلامي مثلي هارب من بطش نظام الأسد إلى بيروت، التي تملك تاريخًا طويلًا جدًا معه، ومعقدًا بما فيه الكفاية ليكون فيها "نحن" و"هم".

يد المساعدة
أغلقتُ الهاتف، ثم أعادت الاتصال بعد دقائق: "علينا أن نجد حلًا لموضوع الإقامة". لا أعلم كيف سنجد حلًا لهذا الملف، فالمنظمات الحقوقية على مستوى العالم ملّت من محاولات إقناع الحكومة اللبنانية أن تساعد اللاجئين في الحصول على الأوراق الرسمية. أعادت الاتصال مجددًا بعد دقائق: " لقد تحدثت مع فلان، شخص لديه نفوذ هنا، وعدني بتقديم المساعدة". الدرس الأول الذي تعلمته في بيروت: أنت بحاجة إلى "أصحاب النفوذ" في كل مكان. اتصال جديد بعدها بدقائق قليلة: "من الأفضل أن نبدأ التحدث مع السفارات الأوروبية للحصول على لجوء هناك"، الدرس الثاني: لا مستقبل هنا.

هكذا أمضيت الليلة الأولى في بيروت، أطلع على قائمة فيها الكثير من "اللازم"، الواجب، عليّ القيام به حتى أستطيع الحياة هنا. أما إذا أردت السفر فأنت أمام "المهمة المستحيلة". فالسوري ليس مرحبًا به في أي مكان في هذا العالم، ولا حتى في سوريا.

في اليوم التالي كان اللقاء الأول بهذه الإعلامية. الكاميرا، والعمل في تغطية الشأن السياسي والعسكري، يخفيان الكثير من الملامح الإنسانية. كنت أخشى أن أكون "قصة" بالنسبة لها، لكنها كانت مؤمنة بقضيتي جدًا، وتعرف تمامًا معنى أنت تكون مهددًا بالموت لأنك إعلامي فقط.

قدمت لي الكثير من المساعدة الإنسانية والقانونية والمجتمعية، كانت أكثر بكثير من مؤمنة بالقضية وباحثة عن تقديم المساعدة، كنت أستشعر أنها تتصرف بمنطلق إنساني وأخلاقي. ربما كانت تشعر أنها تحملت عبء المسؤولية التي ألقيتها عليّها، منذ أبلغتها بتفاصيل ما يحدث معي في درعا، وبحثي عن المساعدة في بيروت.

سياحة قسرية
عندما تكون حديث العهد ببيروت فأنت بحاجة إلى الكثير من المساعدة. بدأت شبكة علاقاتي بالمجتمع الإعلامي والحقوقي تتوسع بعض الشيء، كنت "قصة" بالنسبة إلى بعضهم. وفي الحقيقة، لم أمانع في هذا كثيرًا. أعلم معنى أن تكون أمام هارب من قلب المعركة، ويحمل في ذاكرته ودفاتره الكثير عنها. سواء كنت إعلاميًا أو حقوقيًا أو مؤرخًا، عليك "استغلال الفرصة".

بدأت التعرف على ملامح بيروت، التقيت بـ "التاكسي - السرفيس"، الذي أصبح لاحقًا جزءًا من حياتي اليومية، طبعًا كما شرائي للرقم اللبناني الذي كان لا بد بالبداية من بعض الاستغلال ودفع مبالغ إضافية. تعرفت إلى العُمْلَة، وأيقنت سريعًا أن عليّ التوقف عن مقارنة القيمة الشرائية لليرة اللبنانية بنظيرتها السورية، كلاهما منهارٌ ومنهوب. لم أستغرق الكثير من الوقت، لأفهم أن حلّ مشكلة الكهرباء وإنهاء ظاهرة "اشتراك الموتور" تبدأ عند السياسيين المتقاسمين لثروات لبنان.

الأيام تتبعها الأيام، أصبحت آلف بيروت وأصبحت بيروت تألفني، زرّت "صخرة الروشة" مرتين. ومن حق اللبنانيين التباهي بجمالها، فهي كذلك فعلًا، بدأت أتشجع للخروج من "مناطقنا" والتجول بين الأحياء البيروتية التي تشبه دمشق كثيرًا، حتى ذاك الجبل يُذكرني بقاسيون، لكنه بلا مدافع وراجمات للصواريخ.

اعتدت الكثير من تفاصيل بيروت، إلا المياه، ما زلت عاجزاً عن التأقلم مع المياه المعدنية المعبئة. هي ليست مشكلة بيروت بقدر ما هي مشكلتي. عندما تأتي من منطقة تشتهر بعذابة مياهها على مستوى العالم فهذه مشكلتك أنت فعلًا. الدرس الثالث: بيروت ليست درعا، في الواقع ليس أي مكان في هذا العالم هو درعا. لذلك توقف عن المقارنة إذا أردت الاستمرار في الحياة، من دون أن تموت مقتولًا بحسرتك وغربتك.

دروس لبنانية
كنت سعيدًا جدًا بـ "المحيط الإعلامي" الذي أتواجد فيه، المؤيد للثورة السورية بطبيعة الحال. ترسخ لديّ انطباع بأن لبنان يمتلك حرية إعلامية يحسده عليها الكثير من الشعوب العربية. لدى اللبنانيين مجتمع إعلامي لا يقل سلطة ولا نفوذاً ولا تأثيراً عمّا يملكه السّاسة.

بدأت أتابع القضايا اللبنانية أكثر، واكبت تشكيل الحكومة الجديدة، ورصدت ردود الفعل على الزوبعة التي أحدثتها قضية الزواج المدني. يا إلهي كم أن هذا الشعب "رهينة" لصراعات السياسيين ونفوذهم. هذا الشعب "منهوبٌ" في لقمة عيشه وفي خيرات بلاده. هذا الشعب "منحورٌ" طائفيًا بشكل غريب. تنتهي حالة الاستغراب عندما أتذكر أن الشعب السوري ليس أفضل حالًا.

لن أكذب.. لم تفارق ذهني فكرة أن عليّ البقاء داخل "محيطي السّني". يجب أن أتجنب الاختلاط بغيره فـ"جانبهم غير مأمون". الانقسام الطائفي الحاد في لبنان يسيطر على كافة مفاصل الدولة والمجتمع. الشّيعة يمثلهم حسن نصر الله الشريك في الجريمة السورية، والمسيحيون يمثلهم عون وصهره اللذان "يعانيان من رُهاب اللاجئين السوريين"، أما السّنة فزعيمهم سعد الحريري الْمُوَالِي للثورة. هكذا كان التقسيم الطائفي في رأسي، ساذج للغاية مقارنة بالحقيقة.

خطاب السّاسة الطائفيين المترسخ في لبنان، يعكس عن أهله غير حقيقتهم. من الظلم أن ننحاز إلى الأحكام المُسبّقة المبنية على الطائفة فقط. اكتشفت بعد أسابيع في بيروت، أن الأشخاص الذين ساعدوني جلّهم من الشّيعة المؤيدين للثورة السورية. الدرس الرابع: ليس كلُّ الشّيعة حزب الله، هناك فئة غلبت إنسانيتها وأخلاقها ومواطنتها على طائفيتها بكثير.

الذهاب إلى "العودة"
ولأنني على بعد بضع عشرات الكيلومترات من سوريا، فقد كانت الأفكار المجنونة تتسرب إلى رأسي كثيرًا. فكرت بالعودة إلى درعا مرات عديدة. طريق التهريب سالك بالاتجاهين. كان لعودة بعض النشاط الثوري، وخروج تظاهرات عدّة في درعا، أثرًا قاسيًا على نفسي أكثر مما ظننت. شعرت بالعجز وأنا أتابع الأحداث من بعيد.

سأغادر بيروت قريبًا، لا أعرف إلى أين وكيف ومتى، لكنني سأفعل. بيروت احتضنتني عندما هربت من الموت، منحتني عائلة وأصدقاء وتجربة إعلامية وحقوقية لن أنساها. لكن بيروت مدينة "محتلة"، الطبقة الحاكمة لا تشبه هذا الشعب أبدًا.

أبلغوني أنه عندما تغادر لبنان ستُوضع على قوائم "ممنوع من العودة". لكنني مؤمن أنني سأعود إلى بيروت، سأعود عندما تُقتلع شجرة الرعب المزروعة في دمشق وتُبصر بيروت النور. وقتها سأسلك "طريق الموت" الذي هربت فيه، لكن هذه المرة سيكون الطريق من بيروت إلى درعا. (انتهى)

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024