نظرة إلى الاغتراب اللبناني: العودة هي الأصعب

روان الأمين

الإثنين 2019/06/10
مع انعقاد "مؤتمر الطاقة الاغترابية" (السادس داخل لبنان)، عاد الحديث عن هذا الـ"لبنان" المتوزع على جغرافيا العالم، وعن تلك الصلة التي تجمع أجيال المهاجرين بوطنهم الأم. فالهجرة وموجاتها المتعاقبة تشكل جزءاً مهماً من التاريخ اللبناني الحديث. 

الاغتراب هو حلم الأكثرية اللبنانية. ولو كان الانتقال من بلد إلى بلد لا يحتاج لجواز سفر، ولا لتأشيرات، لكنا شهدنا شطراً كبيراً من اللبنانيين يغادرون بلدهم. فالأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية (والبيئية والخدماتية..إلخ)، من سيئة إلى أسوأ. حياة اللبنانيين تدور دائماً حول المعضلات نفسها منذ نشأة الكيان قبل قرن، في الخدمات والبنى التحتية والانتظام العام والإدارة. والمقلق أن المشاكل تزداد سوءاً، والبلد يتدهور حاله مع مرور السنين بدلاً من أن يتقدم ويتجاوز مشاكله. فبتنا نشهد استفحالاً في أزمة البطالة، وتلوثاً متفاقماً، وغياباً للضمانات الصحية والاجتماعية.. كل تلك المشاكل، علاوة عن عدم استقرار النظام السياسي، تجعل من اللبناني شخصاً طامحاً إلى الهجرة، وباحثاً عن حياة كريمة خارجه.

سير وتجارب
لكن الغربة ليست كما يتصورها الكثيرون. هي تجربة تشوبها الكثير من المصاعب. وصورة الحياة المثالية التي نتخيلها هي ليست الحقيقة الوحيدة، بل هي واجهة تخفي ما خلفها من تحديات وأرق وعوائق..

هاجر رامي إلى أميركا منذ سبعينات القرن الماضي، حين اندلعت الحرب الأهلية، هارباً من المجازر والقتل والعنف المتفشي. ذهب وبدأ حياة جديدة مستقرة. لكن تجربة رامي لم تكن مجرد انتقال إلى بلد جديد وكأن النجاح بانتظاره. فسيرته الاغترابية حملت في طياتها رحلة من الشقاء والمعاناة. تخللتها مفترقات طرق صعبة، أولها الاندماج الاجتماعي والثقافي. إذ منذ لحظة وصوله إلى "وطنه الجديد" كان عليه إما الاندماج أو الحفاظ على الجذور. لا ينحصر الاندماج هنا بالعادات والتقاليد، بل يتعداه إلى الأعراف والديانة وثقافة الشعوب والتاريخ والذاكرة الجماعية.

على امتداد حياته توصل رامي إلى صيغة "توافقية" بين هويته الأصلية وهويته الجديدة، بأقل قدر من التناقض.
لم تكن هذه حال حسن في أميركا: "اصطدمت بتفاصيل لم تكن في الحسبان. كان عليّ تقبّل مواقف هي باعتقادي مخالفة لديني. هذا الأمر دفعني إلى المزيد من تعلقي بإسلامي، متمسكاً بكل ما ذكره القرآن. هذه التفاصيل والمعتقدات جعلتني رافضاً لمحيطي. وكنت دائماً أبحث عن من هم من ديني، ومن هم على نهجه".

تختلف سيرة سعيد الذي ذهب إلى فرنسا للدراسة وسعياً للبقاء والعيش هناك: "كنت قد مللت من بلدي ومن عقليته المتحجرة. وأردت التحرر من جميع قيودي. ومنذ وصولي رحت أختبر كل ما كان ممنوعاً في بلادي، وكل ما كنت أجهله. كان لدي شغف كبير لخوض جميع التجارب. لم يكن عندي حدود لأي شيء حتى أن البعض اعتقد أنني فقدت السيطرة على نفسي، لكن بالنسبة لي كنت كشخص قد خرج من المستنقع...لا أنكر أن لبنان لا يزال بلداً جميلاً. لكنه بلد للسياحة وحسب. فأنا لم يعد باستطاعتي العودة إليه".

الاندماج المعكوس
المشكلة البارزة هي الخاصة بالأجيال التي ولدت في بلاد الإغتراب، فيكون الإندماج المعاكس هو الأصعب. والمقصود هنا هو الإندماج في بلدهم الأم لبنان. فهناك من لا تعنيه أصوله ولا حتى التعرف على جذوره. وإن أتى إلى لبنان تكون زيارته سياحية بحتة، من دون أن يكون هناك شعور بالإنتماء أو الحنين. حتى أن بعضهم لا يعترف سوى بالجنسية التي حصل عليها في بلد الإغتراب، التي تكون بالنسبة له هي وطنه وهويته.

سعياً وراء تكوين صورة عامة أو خريطة اغترابية واضحة، حاولت "المدن" الحصول على معلومات رسمية من وزارة الخارجية والمغتربين، للتعرف أكثر على هذا الملف، لكنها حتى اليوم لم تتعاون. لذا لجأنا إلى الجهات الخاصة والتجارب الحية. 

ذاكرة الهجرة
الهجرة كانت معروفة في الزمن العثماني، خصوصاً من جبل لبنان منذ أواسط القرن التاسع عشر. لكن بعد نشوء "دولة لبنان الكبير"، بدأت موجة هجرة اللبنانيين منذ ثلاثينات القرن العشرين، وازدادت في العقود التالية بسبب الاضطرابات والأزمات المختلفة. ثم أتت الموجة الثانية من الهجرة مع اندلاع الحرب الأهلية. أما الموجة الثالثة فكانت بعد نهاية الحرب مباشرة. وهي لم تتوقف حتى أيامنا هذه، بسبب انعدام الاستقرار وتوالي الحروب والأزمات.

وعلى الرغم من امتداد عمليات الهجرة زمنياً، لم يتجاوز عدد اللبنانيين من حاملي الجنسية أربعة ملايين، حسب "الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم". وهذا على عكس ما يقال دائماً بأن المغتربين هم ثلاثة أو أربعة أضعاف عدد اللبنانيين المقيمين. فبرأي "الجامعة اللبنانية الثقافية.." أنه إذا إفترضنا أن نصف اللبنانيين قد هاجروا، فالمنطق أن يتساوى عددهم مع عدد المقيمين، وإن تضخيم أعدادهم في الإعلام يهدف إلى المبالغة في التدليل على حجم الظاهرة، أو للمبالغة في مديح المغتربين وأهمية مكانتهم وما يحققونه من إنجازات ونجاحات في بلدان الاغتراب. لكن، وبغض النظر عن الأرقام، فالمؤكد أن لبنان هو من الدول الأكثر اغتراباً نسبة إلى عدد سكانه، حسب المنظمة العالمية للهجرة.

إحصائيات غير رسمية لأعداد المغتربين وتوزعهم، وغير شاملة لجميع الدول:
الولايات الأميركية المتحدة مليون ونصف مليون، كندا 350 ألفاً، كوبا عشرون ألفاً، هندوراس عشرون ألفاً، باناما 18 ألفاً، السلفادور 28 ألفاً، مكسيك ستون ألفاً، برازيل أربعة ملايين، أرجنتين مليونان ومئة ألف، كولومبيا مئة وخمسون ألفاً، فنززويلا ثلاثمئة وخمسون ألفاً، إكوادور مئة ألف، بوليفيا خمسة عشر ألفاً، تشيلي ثمانية وعشرون ألفاً، باراغواي ثمانية عشر ألفاً، أوروغواي ستون ألفاً، بيرو ثلاث آلاف مغترب.

هولندا سبعة آلاف، اسبانيا عشرة آلاف، فرنسا تسعون ألفاً، بريطانيا ثمانية آلاف، ألمانيا ثلاثة وخمسون ألفاً، بلجيكا ثمانية آلاف، إيطاليا أربعة آلاف، السويد سبعة آلاف، سويسرا أربعة آلاف، فنلندا مئة، البرتغال ثمانمئة، الدانمارك ألفا مغترب.
أستراليا أربعمئة ألف. الكونغو ثماني آلاف، مصر عشرة آلاف، غانا سته آلاف، جنوب أفريقيا عشرة آلاف، السنغال عشرون ألفاً، ليبيا ألفان، موريتانيا مئتان وخمسون، مالي أربعمئة، ساحل العاج ستون ألفاً، غابون سبعة آلاف، أفريقيا الوسطى ثلاثة آلاف، أنغولا ألفان، غينيا أحد عشر ألفاً، توغو ستة آلاف، نيجيريا أربعة عشر ألفاً، ليبيريا إثنا عشر ألفاً، سيراليون إثنا عشر ألفاً.
أما في مجلس التعاون الخليجي فتصل الأعداد إلى ثلاثمئة وخمسين ألفاً.  
   
لبنان بمساحته صغير على أهله، حتى وإن غابت عنه ظروف الأزمات، فهو لن يستطيع أن يستوعب جميع أبنائه. لذا، فواقع الاغتراب محتم على اللبنانيين، بحثاً عن وظائف لائقة وعيش كريم وفرص ازدهار. لذا يتوجب النظر إلى ظاهرة الاغتراب بإيجابية واقعية، والاهتمام بالمهاجرين في غربتهم، وتشجيعهم على دعم بلدهم وتطويره، من خلال عملهم في الخارج، وتذكيرهم بأنهم لبنانيين دائماً، وصون صلتهم ببلدهم الأم، ومساعدتهم في الحفاظ على لغتهم وهويتهم الثقافية. ليكون لبنان أوسع من مساحته وطناً يتجاوز الجغرافيا.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024