العراقيون ضحايا سمسرة المكاتب و"مسلخ"المستشفيات اللبنانية

وليد حسين

الجمعة 2018/11/02

لم يعد لبنان يُشكّل عامل جذب للمرضى العراقيين، جرّاء تعرّضهم في السنوات الفائتة لعمليات الاحتيال في المستشفيات اللبنانية. فبعد معاينة العراقيين بأنفسهم وأجسادهم وأموالهم مدى غلاء وفحش الفاتورة الاستشفائية اللبنانية، وتلاعب المستشفيات بها أمامهم، راحوا يبحثون عن خيارات علاجية بعيدا عن البلد "الشقيق"، في بلدان توفّر لهم العلاج الشافي بأزهد الأسعار وبمعاملة إنسانية لا تنظر إليهم كمصدر للعملة الخضراء. حتى أن مديرية "الحشد الشعبي"، التي باتت عبارة عن هيئة طبّية موازية لوازرة الصحة في العراق، كانت بصدد إنشاء مكتب لها في لبنان لتسهيل أمور مرضاها (وجرحاها) المرسلين للعلاج في الخارج بعد استحالته في الداخل، لكن غلاء الأسعار وتلاعب المستشفيات بالفواتير، جعلها تُقلع عن الأمر. إذ تراجع عدد المرضى المرسلين إلى لبنان، بعد تأمين مسارات علاجية جيّدة وبأسعار تنافسية في دول مثل الهند وإيران، كما قال نائب مدير الطبابة في "الحشد" ظافر رجا إلى "المدن".

 

الوجهة-المصيدة

تختلف حال المرضى العراقيين الأفراد، الذين يختارون لبنان لتلقي العلاج، عن مرضى "الحشد" الذي يتعامل مع المستشفيات كهيئة رسمية تعقد "شراكات"، شبيهة بالعقود التي تعقدها الدول بين بعضها البعض. كما تختلف حالهم أيضاً لناحية تكفّل "الحشد" بعلاج المرضى على نفقته، بينما يأتي المرضى الأفراد للعلاج على نفقتهم الخاصة، وغالباً بشكل مباشر من دون وجود وسطاء.

ولعل أبلغ تعبير لما يتعرض له المرضى العراقيون في لبنان ما جاء على لسان المتنبي "مصائب قوم عند قوم فوائد". فالويلات التي مر بها الشعب العراقي خلال الحصار والحروب المستمرة إلى مرحلة ما بعد سقوط صدّام حسين، جعلت العراق خالياً من الأطباء المهرة الذين باتوا متوزعين في أصقاع العالم. وإسوة بالأطباء، هام العراقيون على وجههم للبحث عن الطبابة خارج العراق. وكان لبنان إحدى محطاتهم العلاجية الخارجية، نظراً لشهرة مستشفياته وسهولة التواصل اللغوي مع أبنائه.

تقول رجاء الحسيني التي عملت في مكتب أحد المستشفيات اللبنانية على ملف السياحة الاستشفائية في العراق لنحو عامين: "يقصد العراقيون إيران للعلاج نظرا لقرب المسافة وتوفر العلاجات بأثمان زهيدة، كما هي الحال في الهند. لكن ولكون المريض يفضّل التواصل المباشر مع الطبيب من دون مترجم، وبسبب اختلاف طبيعة الطعام في الهند وعدم معرفتهم إذا كان حلالاً أم لا، يفضلون لبنان". لكن العراقيين وقعوا في المصيدة اللبنانية وتعرضوا لأبشع أنواع الاستغلال. "كانوا في السابق يأتون إلى لبنان للبحث عن الاطباء بشكل فردي، وعندما كان يأتي المريض العراقي إلى المطار يتعرّض لسلسلة طويلة من الاستغلال، لا سيما أن مجيئه كان يتمّ من دون تنسيق مسبق مع المستشفى والطبيب. يستعين بسائق التاكسي لإرشاده إلى الأطباء والمستشفيات والفنادق المناسبة. انتبه سائقو التاكسي سريعا "لغربة" العراقي، ووجدوا فيها مكسباً كبيراً وفتحوا "بيزنساً" على حسابهم الخاص بالتعاون مع بعض الاطباء: يأخذهم السائق إلى فندقٍ يتفق مع صاحبه على سمسرة معينة، ثم يأتي ليقلّهم في اليوم التالي إلى الطبيب ويأخذ منه عمولة أيضاً، والأخير بدوره يرسلهم إلى المستشفى الذي يكون قد اتفق معها على حصّته".

 

مكاتب السمسرة

مع توسّع استخدام العراقيين للإنترنت ومنصّات التواصل الاجتماعي، التي غزتها مكاتب "السمسرة" العلاجية، سواء كان في العراق أو في لبنان، بدأوا يبرمجون رحلاتهم العلاجية قبل الانطلاق إلى لبنان أو سواه من الدول أيضاً. ونظراً لكثرة حالات المرض، لا سيما السرطان منها وأمراض القلب وإصابات الحرب، بدأت المكاتب بتقديم عروضات وباقات "السياحة العلاجية" في الخارج.

تعمل هذه المكاتب على تقديم عروض متكاملة: العلاج والسكن ووجبات الطعام والتنقلات الداخلية. يقول حسين (رفض الكشف عن اسمه الكامل)، صاحب "مركز السياحة الاستشفائية للعراقيين في لبنان": نقدّم للعراقيين جميع التسهيلات للعلاج في لبنان وقد افتتحنا مكتباً لنا في بغداد لتسيير أمورهم. إذ نقوم بدراسة ملفات المرضى لتحديد سعر العلاج في مكتبنا في بيروت حسب خبرتنا في الأسعار، أو عبر عرضها على أطباء في لبنان، ونرسل لهم باقة متكاملة تتضمن الإقامة والتنقلات الداخلية. أما التسهيلات العلاجية فهي مختلفة وتتضمن: علاج وكشف أمراض سرطان وإجراء صور شعاعية وعلاج أمراض القلب... وصولاً إلى إجراء عمليات الجراحة التجميلية".

ويضيف حسين: "يفضّل العراقيون مستشفى الجامعة الأميركية نظرا لسمعتها، لكن المسألة متعلقة بالحالة الاجتماعية. في حال كان المريض غير ميسور الحال نؤمّن له العلاج في مستشفيات نختارها بأنفسنا أو بعد استشارة الأطباء الذين نتعاون معهم". ويستفيض حسين في الكشف عن أسعاره التنافسية والتسهيلات التي يقدمها لاستقطاب المرضى لا سيما في ظل وجود مكاتب كثيرة تعمل في لبنان: "على سبيل المثال نقدم فحص الـPET Scan مع الاقامة بـ1400 دولار فقط لا غير".

بدورها تقول الحسيني: "من خلال عملي في العراق شاهدت بأم العين مئات الحالات التي تعرضت لعمليات نصب واحتيال في لبنان. علماً أنه نادرا ما يذهب العراقي للعلاج الخارجي على حساب مجالس المحافظات أو وزارة الصحة. فالأخيرة ترسل بعض الحالات المستعصية للعلاج في الخارج. لذا معظمهم يقصد الخارج على حسابه الخاص إذا كانوا ميسوري الحال أو عبر جمع التبرعات من العشائر. فعندما قدمت إلى لبنان واستأنفت عملي في السياحة العلاجية للعراقيين، اشترطت على المستشفيات التي تعالج المرضى الذين أتوسّط لهم عدم زيادة أي قرش إضافي على فاتورة المريض".

لا تنكر الحسيني بأنها تلقّت عروضاً ونصائح عديدة من المستشفيات للتلاعب بالفاتورة، لكنها رفضت. فـ"هذه مهنتي ويهمني أن أكسب المزيد من الزبائن عبر كسب ثقتهم. فعندما يصلني ملف المريض أبحث عن الطبيب المناسب وأتفق مع المستشفى على كلفة العلاج وأشترط عليهم بأن تكون موازية لفاتورة أي لبناني يطلب العلاج على حسابه الخاص، وابلغ المريض بذلك بعدما أحصل على السعر المحسوم. وقد أكسبتني هذه الثقة المزيد من الزبائن العراقيين، إضافة إلى معارفي الكثيرة في وزارة الصحّة ومجالس المحافظات والوحدة الطبية في "الحشد الشعبي".

 

لبنان في الدرجة الثالثة

يعتقد نقيب أصحاب المستشفيات في لبنان الدكتور سليمان هارون أن العراقيين يختارون لبنان بسبب وجود مستوى جيد ومتقدم من الخدمات الطبية. وهذا ما أكّد عليه رئيس الهيئة الصحية والاجتماعية الدكتور اسماعيل سكرية، مضيفاً إن لبنان هو الأقرب إليهم لا سيما أن الدول العربية المحيطة لا تمتلك المواصفات العلمية المتوفرة هنا.

أما أكثر المستشفيات المقصودة فهو الرسول الأعظم لكونه أحد أهم المستشفيات لجراحة القلب في الشرق الاوسط، والجامعة الأميركية لمكانتها في علاج أمراض السرطان، لكن هناك جزءاً كبيراً يقصد بقية المستشفيات حسب حاجته وأوضاعه المادية.

لكن للعراقيين في هذا الصدد رأياً مختلفاً، إذ يقول نائب مدير الطبابة في "الحشد" ظافر رجا عاتباً: "يتعامل الحشد مع مستشفيات عدّيدة في لبنان، لكن قبل إرسال المريض نعمل على استدراج العروض. فالأخوة في لبنان باتوا يعلمون جيداً أن وقوع الخيار على لبنان لعلاج مرضانا يأتي في الدرجة الثالثة بعد الهند وإيران. وهذا ليس من باب الشكوى، لكننا شعرنا أنه إذا لم نتابع جميع التفاصيل خطوة بخطوة نتعرض لعمليات إحتيال. فقد تمّ رفع كلفة العلاج المتفق عليها مرات عدة من دون تلقي أي جواب واضح من إدارات المستشفيات. وتمّ إعادة تعديل الفاتورة بعد توجيه الشكوى في أحيان أخرى، وهذا أمر غير معقول. هذا فضلاً عن أن بعض المستشفيات يتعمد إعادة إجراء الفحوص الأولية، التي يجريها المريض في العراق، بهدف رفع كلفة العلاج. صحيح أن هذه الحالات فردية، لكنها شوّهت الصورة عندنا عن السياحة الاستشفائية في لبنان". 

 

غياب الأرقام الرسمية

ارتفع عدد العراقيين القادمين إلى لبنان بشكل ملحوظ في السنوات الثماني الفائتة. فحسب بيانات دائرة الإحصاء المركزي كان عدد العراقيين الوافدين إلى لبنان في العام 2010 نحو 130 ألف زائر، ثم ارتفع تدريجياً ليصل إلى نحو 236 ألفاً في العام 2016، ثم يتراجع إلى 227 ألف زائر في نهاية العام 2017. لكن معرفة أعداد العراقيين القادمين لدواعٍ سياحية أو لدواعٍ علاجية تبقى صعبة المنال في ظل غياب التصنيفات الرسمية.

بعد محاولات عدّة، باءت جميعها بالفشل، للتواصل مع وزارة الصحّة اللبنانية لمعرفة عدد المرضى العراقيين السنوي وحجم انفاقهم العلاجي في لبنان، أكّد نقيب أصحاب المستشفيات سليمان هارون عدم وجود تقديرات حول أعداد العراقيين وإنفاقهم في سجل النقابة، مستبعداً امتلاك وزارة الصحة مثل هذه المعطيات. فجميع العراقيين يأتون إلى لبنان إما بشكل فردي أو عبر المكاتب الخاصة التي تعقد شراكات مع المستشفيات ولا وجود لأي نوع من الشراكات بين وزارتي الصحّة في البلدين.

وغياب الأرقام يسري أيضاً على نقابة أصحاب الفنادق التي لا تملك معلومات حول الانفاق السياحي للعراقيين في الفنادق اللبنانية، كما أكّدت النقابة لـ"المدن". أما تقصي المعلومات من المستشفيات مباشرة ففيها ربما حرج كبير لإدارات المستشفيات، إذ لم تجاوب مكاتب العلاج الخارجي في مستشفَيَي الجامعة الأميركية والرسول الأعظم على استفسارات "المدن" حول عدد المرضى العراقيين وحجم فاتورتهم الصحّية.

 

المستشفيات-المسلخ

تواصلت "المدن" مع سفارة العراق في لبنان للوقوف عند رأيها في شأن طبيعة تعاطي لبنان والمستشفيات الخاصة مع المرضى العراقيين ولم تتجاوب هي أيضاً. لكن في تصريح له إلى الوكالة الوطنية للإعلام العام الفائت شكا السفير العراقي في بيروت علي العامري من أنهم "بدأوا يشعرون بأن شبه عمليات نصب تطالهم. وأجور العلاج عالية جدا ولا تقارن بأسعار العلاج في الدول المجاورة". وأفرد العامري حالات لعراقيين "دفعوا كلفة تحليل دم عشرة آلاف دولار، ومراجعة طبية بسيطة أو إقامة في المستشفى بلغت تكاليفها 100 ألف دولار". وضرب مثلاً عن "المريضة ف.ع. عندما أتت للعلاج في مستشفى الجامعة الأميركية قيل لها أن كلفة العملية هي 13 ألف دولار، وعندما فشلت العملية وحدثت لها مضاعفات، أجريت لها عمليات أخرى وطالبوها بتسديد مبلغ قدره نحو 100 ألف دولار أميركي".

بدوره أكّد سكرية على تعرّض المرضى العراقيين إلى الاستغلال والابتزاز والسمسرات منذ وصولهم إلى المطار حتى دخولهم إلى المستشفيات. وروى حادثة حصلت معه منذ ثلاث سنوات، قام على أثرها بمناشدة الأطباء والمستشفيات لإبداء الرحمة بهم. وتلقى شخصيا شكوى من مريض عراقي مصاب بالسرطان طلب منه الدكتور المعالج شراء أربع حقنات، ثمن الواحدة منها 35 ألف دولار. والأسوأ من ذلك أن تلك الحقن كانت قيد الاختبار. كان في الأمر فضيحة كبرى و"بزنس" كما أكّد سكرية.

أما الحسيني فروت حادثة وقعت لمريضة أربعينية كانت تريد الذهاب إلى "الأميركية" لتلقي العلاج لمرض السرطان. طلبوا منها 18 ألف دولار لعملية استئصال الرحم. تواصلت الحسيني مع أطباء آخرين وحصلت على عرض في الرسول الأعظم بـ6 آلاف دولار لقاء العملية. احتارت الفتاة لتفاوت الأسعار وذهبت إلى "الاستخارة" فوقع الخيار على طبيب في السان جورج حيث أجرى العملية ب4100 دولار فقط.

 

الفاتورة الصحية

فيما يستبعد هارون وجود أي تأثير على نوعية الطبابة للبنانيين أو على غلاء فاتورتهم الصحية جراء توافد المرضى العراقيين بكثرة، خصوصاً أن المستشفيات لديها قدرة على استيعاب الجميع، أكّد سكرية على أن الأمر ينعكس على الفاتورة الصحية للبنانيين. فالمستشفيات تفضّل المريض العراقي والدفع نقداً على المريض اللبناني، الذي يتلقى العناية الطبية على حساب الضمان الاجتماعي أو وزارة الصحة. وأضاف سكرية إنّ مستشفى رفيق الحريري الحكومي في السابق كان يفضّل المرضى السوريين والعراقيين على اللبنانيين نظرا لتلقيهم العلاج على حساب المنظمة الدولية لشؤون اللاجئين. وختم بالقول: "حامل المال نقداً من الجنسيات العربية يأخذ من طريق اللبناني. المستشفيات تفضّل الدفع النقدي فوري على انتظار تحويل الأموال من الجهات الضامنة".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024