قتلى قبضايات هنري فرعون في الخمسينات اللبنانية

محمد أبي سمرا

الإثنين 2019/07/08

كان الياس الصوري المقيم في المريجة بساحل المتن الجنوبي، أحد أبرز شبكة أتباع هنري بك فرعون ومحاسيبه من ما كان يسمى القبضايات. والكلمة هذه تركية المصدر، وتعني الخال الغليظ الخشن، ويتصل بمعناها هذا استعمال القبضيات وأتباعهم عبارة "أيش ياخال" تحيّة ومحطة كلامية في ما بينهم. وكان نحو عشرين شابًا من عزوة الصوري وأتباعه في خمسينات القرية الساحلية، منهم راوي هذه الأخبار خليل خالد الفغالي المولود سنة 1934 في المريجة، وريمون أبو زيد، وابنا الطبيب البيطري أبو معروف علامة، الذي كان يعمل في طبابة الأبقار التي كانت تكثر تربيتها في قرى ساحل المتن الجنوبي، وكان ساعد من ساعديه مقطوعًا وركّب مكانه ساعدًا وكفًا من خشب. إبنا أبو معروف، رامز وابرهيم، كانا يعملان في معمل للبلاط يملكه آل المر قرب معمل غندور في الطيونة، ويعمل معهما أيضا شاب يدعى ميشال شرابية، اللبناني المولود في مصر، حيث توفي والده ووالدته، فنشأ وتربى في ميتم للراهبات اللعازريات في القاهرة، قبل أن تصطحبه وتعود به إلى لبنان راهبة لبنانية من آل باسيل، تعهدت رعايته وتربيته في الدير القاهري.

ليجاري أقرانه العمال في فتوتهم وقوتهم البدنية، أقبل شرابية الشاب على التمرين في ناد لكمال الأجسام في المريجة، مدفوعا برغبته المحمومة في الدفاع عن نفسه، ورد تحرش العمال به واستضعافه كغريب بينهم وبلا سند من عائلة وأهل، إضافة الى سخريتهم الدائمة من لهجته المصرية. وبعدما امتلك في نفسه وجسمه قوة وشكيمة، عزم على الانتقام من مستضعِفيه، فقام بتحدي القبضاي ريمون أبو زيد وتمكن منه في مشاجرة حضرها رفيقاه في معمل البلاط، رامز وابرهيم علامة اللذان لم يهن عليهما أن يَكسر شوكة قبضاي المحلة شابٌ غريب وصاحب لهجة غريبة. لذا التقى الثلاثة الراوي الفغالي وأخبروه بما حصل، وحرّضوه على تحدي شرابية المتنطح لدور القبضنة وفرض سطوته بين الشبان.

لغة الفتوّات
صبيحة نهار الخميس الواقع فيه اليوم الأول من تشرين الثاني 1951، غادر والد الراوي الشاب منزله في المريجة وأوصى ابنه خليل بأن يخلط التراب بالرمل الذي جلبه جمّالون، لفرشه في البستان لتصير تربته أكثر خصوبة.

وصل إلى البستان الأخوان رامز وابرهيم علامه ومعهما ميشال شرابية الذي بادر الراوي قائلا في لهجته المصرية: فين التقّالة دي (أي العَمْدَة أو المحدلة التي يتباهى الشبان برفعها) عاوز أرفعها. أشار الراوي بيده إلى موضع المحدلة، فقام شرابية برفعها إلى فوق رأسه، ثم رماها أرضًا، قبل أن يقول متحديًا: أنا بكسر راسك وبمصّ عظامك. أنت متأكد من كلامك؟ جاوبه الراوي متسائلا، فقال شرابية: طبعا متأكد. ترك الراوي الرفش واندفع مسرعًا إلى منزله. في المطبخ كانت أمه تقلي أقراصا من الكبّة على بابور الكاز، فسألها عن المسدس الذي كان تركه على الطاولة، فأرشدته إلى موضعه، فحمله مع طلقاته النارية، وخرج إلى الحديقة مناديًا شرابية وسأله إن كان لا يزال مصرًّا على أن يمصَّ عظامه؟ فجاوبه شرابية أنه سيفعل، ثم اقترب من أحد الأخوين علامة، وحاول أن ينتزع من يده بندقية صيد كان يحملها. خشية أن يتناول البندقية ويطلق منها النار عليه، سارع الراوي إلى إطلاق النار من مسدسه، رصاصة أولى وثانية وثالثة، فتكوّم شرابية أرضًا. حين رآه يهوي ويتكوّم، انطلق راكضًا، فسمع عمّته - التي رأته يطلق النار ورأت الشاب يهوي - تصرخ مع جارة لها تدعي تريزة: هروب يا خليل، هروب.

قبضايات في تتخيتة
هرب الشاب خليل راكضًا في الحقول وصولًا إلى منزل الياس الصوري ليختبئ عنده ويحتمي به، فقالت له زوجته إنه ركب سيارته وغادر. ولما عاد الصوري بعد وقت قصير، قال للراوي إنه كان في ساحة المريجة وعلم بما فعله، ثم أدخله إلى مطبخ المنزل ذي السطح القرميد العالي، وقال له أن يصعد سلمًا طويلًا الى تتخيته في جانب من المطبخ، ليختبئ ويرفع السلّم إلى التتخيتة، حيث سيجد أشخاصًا مختبئين. وقال له أيضًا إنه سيغادر ويرسل إلى بيته أحد أزلامه، المدعو جريس أبو زيد.

وجد الراوي ثلاثة أشخاص مسلحين في تتخيتة المطبخ: عنتر أبو زهر، أحد قبضايات جديتا في البقاع، وابنه ابراهيم، وجوزف أيوب، صاحب محطة محروقات في زقاق البلاط (مشهورة حتى اليوم باسم محطة أيوب)، غير بعيد من القصر الجمهوري في القنطاري آنذاك. أبو زهر يحمل بندقية ألمانية، وينتعل جزمة، ويعتمر كوفية وعقالًا، فيما يحمل ابنه ابراهيم مسدسًا. وهما من بطانة قبضايات هنري فرعون وزعامته الكاثوليكية الممتدة من القاع ورأس بعلبك في شمال لبنان الشرقي، وصولًا الى شرق صيدا جنوبًا، مرورًا بعاصمة الكاثوليك في الشرق، زحلة التي كان ينافس فرعون فيها جوزف سكاف. وكان أبو زهر قد دخل أحد مقاهيها وتشاجر مع أزلام سكاف، فقتل أحدهم وهرب إلى المريجة للاحتماء في منزل الصوري. أما جوزف أيوب، فكان تشاجر مع رجل  يعمل في إطفائية بيروت، وأطلق النار عليه، ثم هرب والتجأ أيضًا الى حماية الياس الصوري.

مداهمة شكلية
بعد قليل من الوقت وصلت إلى منزل الصوري سيارته يقودها تابعه جريس أبو زيد، كي يخلي المنزل من زوجته إيفون البستاني وأولاده، ويوصلهم إلى منزل أهلها في المريجة. ومضت ساعتان قبل أن تصل قوة من الدرك في شاحنة طوّق رجالها المسلحون منزل الصوري، بقيادة آمر فصيلة بعبدا الضابط سامي الحشيمي. فورًا هرع القبضايات القتلة المطاردون إلى مخبئهم في تتختية المطبخ، فكتموا أنفاسهم بعدما رفعوا سلّمها إلى أعلى وأخفوه. بعد وقت قصير سمعوا هدير سيارة رأوا الصوري يخرج منها ويقف أمام منزله مع الحاج نقولا مراد وشاكر البعقليني، وهما من أزلام هنري فرعون الأخصاء. اقترب الصوري من الضابط وقال له: نعم يا سامي أفندي حشيمي، شو في مطوقين البيت؟! فقال الحشيمي: المجرم اللّي قتل ميشال شرابية عندك، وبدنا ياه. ما عندي حدا، جاوبه الصوري، ومنعه من الدخول إلى بيته. بعدما تبادلا كلمات التحدي، ركب الصوري سيارته وغادر، تاركًا الحاج نقولا مراد والبعقليني أمام البيت مع الضابط الحشيمي.

بعد بعض الوقت عاد الياس الصوري إلى منزله ودخله مع الحاج نقولا ومراد والبعقليني، فبدأت قوة الدرك بالانسحاب. أخبر الصوري المختبئين في منزله بأنه اتصل هاتفيًا بهنري فرعون، فتلقى الضابط الحشيمي من مدعي عام جبل لبنان، بطرس نجيم، أمرًا بالانسحاب.

الحاج نقولا مراد
كان الحاج نقولا مراد في كامل أناقته وإهابه المعهودين: خيزرانته في يده، يحركها ويضرب بطرفها حذاءه اللماع ضربات خفيفة. مسدسه المرخص على خصره، ومرتديًا غمبازه الذي كان يسمى أيضًا غبانة، فوق شرواله العربي الزاهي. طربوشه الأحمر على رأسه، شارباه مفتولان مرفوعان من طرفيهما، وذقنه حليقة. وكان حضوره ودماثته وخدماته جعلته صاحب حظوة ومسموع الكلمة في الأشرفية التي كان كبير مفاتيحها الانتخابية، فيتمكن بتجييشه عائلات الناخبين فيها أن يُسقط لائحة مرشحين إلى النيابة وينجّح أخرى لصالح هنري فرعون الذي كان الحاج نقولا يدين له بالولاء والنفوذ، وشيّد بناية من أربع طبقات قرب ملعب نادي السلام لكرة القدم بالأشرفية، وسكن فيها، محولًا بيته القديم سيركًا لألعاب القمار، فيما كان شاكر البعقليني تابعه وساعده الأيمن.

وسأل الحاج نقولا الراوي: كيف ولماذا أطلقتَ النار على الصبي؟، فروى له ما حدث، فتدخل البعقليني قائلا: ما اسم الصبي؟ وما أن سمع اسم ميشال شرابية، حتى امتقع وجهه. من المطبخ، حيث كان الراوي يحضّر القهوة تلبية لطلب الصوري، سمع أن شرابية هو ابن خالة البعقليني الذي قال له الحاج نقولا: إذا بتفتح تمك (فمك) بكلمة واحدة راسك بشيلو، ولا كلمة. وفيما هم يشربون القهوة كان الصوري يكتم اضطرابه وقلقه من ورطته الجديدة، إذ صار يأوي في منزله، إضافة إلى المجرمين الثلاثة، مجرمًا رابعًا، هو الراوي، ويحاول البعقليني الإيقاع به إنتقامًا لقريبه شرابية. وبعدما غادر الصوري والحاج نقولا والبعقليني المنزل، قال عنتر أبو زهر للراوي: شو جابك أنت لهون، منين جيتنا وليه؟! رح نروح كلنا عَ الإعدام راكضين عَ أجرينا!

الحوّالة والمناصب
جريًا على عادة أمنية عثمانية، جاء فصيل من فوج الدرك اللبناني السيّار ورابط في بيت أنطون خالد الفغالي، والد الراوي والمفتش العام في وزارة التربية. كانت هذه العادة العثمانية تقضي بأن يرابط فصيل من الحوّالة في منزل من ارتكب جرمًا ما وفرَّ، ويظل الفصيل مرابطًا في المنزل حتى القبض على المجرم.

وفي المرويات والأدبيات الفولكلورية، كان من عادة رجال الحوّالة العثمانيين، الإقامة في بيت المطلوب والتصرف على هواهم وسجيتهم، فيتسلّطون على أهل البيت ويأكلون من مؤونته ما يطيب لهم، فيذبحون شاة أو خروفًا أو طيور دجاج، يولمها لهم أهل المطلوب ويطعمونهم. وهذا ما استوحى منه الأخوان رحباني مشهدًا من مسرحيتهم الغنائية "ناطورة المفاتيح" (ُعُرضت في بعلبك صيف 1970)، وأنشدت فيروز قائلة في ذلك المشهد أن ليس لديها سوى "طنجرة وثلاث دجاجات".

لكن التدبير العثماني الذي بدأ يفقد وجهه التسلطي في عهدي الانتداب الفرنسي والاستقلال، أبقاه الكسل الإداري والقانوني اللبناني ساريًا على نحو شكلي في ممارسات أجهزة الدولة الأمنية والقضائية اللبنانية حتى أواخر عهد الرئيس فؤاد شهاب الذي ألغاه.

أما حين جاء مفتش التربية العام إلى منزله (عام 1951) ورأى رجال الدرك مرابطين في حديقته، فأجرى اتصالات هاتفية كثيرة بمعارفه من أصحاب المناصب الإدارية والحظوة، سعيًا إلى تأمين انسحابهم، فوفّق في مسعاه، بعد اتصاله بنائب قائد الدرك العقيد فيليب أبي نادر، الذي كان القائد الفعلي للدرك وفي يده الحل والربط، فيما كان القائد جميل الخطيب، ضعيف النفوذ.

بائعو الدم
فور انسحاب فصيل الفوج السيّار من منزله، انصرف المفتش العام التربوي إلى متابعة تطبيب ميشال شرابية (ضحية المشاكسات بين صغار  الفتوّات الناشئين) في مستشفى أوتيل ديو الذي كان المفتش على معرفة بأحد أطبائه الجراحين، هو الطبيب الفرنسي المدعو سيودو. كان شرابية في حاجة إلى كميات وفيرة من الدم لإنقاذه من نزيف داخلي. وجريًا على عادة شائعة في تلك الأيام كان رجال سلك الإطفاء في بيروت، الأقوياء البنية البدنية، يبيعون دمهم للمحتاجين إليه في المستشفيات، فاشترى المفتش كثيرًا من ليترات دم الإطفائيين، بسعر ليرة واحدة لكل غرام واحد. أما الشأن القضائي في الجريمة، فتولى متابعته صديقه المدعي العام في جبل لبنان، بطرس نجيم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024