احتلال الوزارات والمرافق العامة والخاصة "واجب إنساني"

نادر فوز

السبت 2019/12/07

في بيروت، مجموعات بالزي الأحمر الرسمي لأبطال "لاكازا دي پاپل" أقفلت مؤسسات رسمية ومالية بالأغلال. في طرابلس، عصيان مدني مستمر ولو بشكل متفاوت. في صيدا، حركة شبه يومية لإقفال محال الصيرفة التي تتلاعب بالدولار. في البقاع والجنوب، عنف رسمي (تعلبايا) وترهيب سياسي (بعلبك، النبطية، صور وغيرها) لم يحدّا من حركة المنتفضين على السلطة.
حركة 17 تشرين لم تنته في الشارع، بل حيّة تنتظر الزخم اللازم في لحظة سياسية ما. حركة مستمرة ترفع شعاري "أعيدوا لنا أموالنا" و"ارحلوا عن السلطة".

قاموس السلطة
لا تفهم السلطة وأحزابها مطالب ثوار 17 تشرين. لا تريد أن تفهم أنّ ثمة جموعاً كثيرة انتفضت عليها. وأنّ جمهوراً لها تحرّر منها وانضمّ إلى حركة شعبية تشبهه وتعبّر عن خوفه وهواجسه وتطلّعاته لبناء دولة. في الشارع، جمهور وجد وطناً ولو كان قراره مسلوباً وماله منهوباً. ولا خيار غيره أمام هذا الجمهور، ولا أمل إلا فيه. ليس في قاموس السلطة تفسير لما يجري.

في الأيام الأولى، كانت هذه السلطة على شفير الانهيار. كانت ستسقط كحجار الدومينو. سلطة تلو أخرى، وحزب تلو آخر. كان ذلك واضحاً في الإرباك الظاهر على وجوه الزعماء، وفي خطاباتهم ومواقف أتباعهم. تداركت الأحزاب السقوط، لكن استمرّت تحت وطأة ضغط الشارع تتحيّن الموعد للانقضاض عليه. ففعلت ما فعلته من قمع ميليشياوي وتخريب. وكانت ولا تزال تتسلّل إلى الساحات عبر أفراد ومجموعات في مهمّة نسفه من الداخل. ولا شيء يدلّ، عند هذه السلطة، أنها بدّلت استخفافها بالناس أو تبحث عن تعديل جوهري في التعاطي معهم ومع مطالبهم. وهذا واضح أيضاً في الابتسامات الصفراء التي توزّعها قيادات الصف الثاني في أحزاب السلطة عند مواجهتها بمواقف الناس على شاشات التلفزة. يفيض قاموس السلطة بمفاهيم التخريب.

مسؤولون يوزّعون ابتسامات صفراء في ما بينهم وعلى الناس. السلطة في مأزق بين مكوّناتها ومع الجمهور أيضاً. وتخبّط مماثل، في سلطة مماثلة، لن يأتي بحلّ. والتعويل على حلّ تقدمّه هذه السلطة أساساً في غير مكانه. وبلغة الشارع، كيف يمكن للفاسد أن يحاسب فاسداً، وكيف يمكن لناهب المال العام أن يعيد إنعاش خزينة الدولة؟ وكيف يمكن لجهاز قضائي أتت به السلطة السياسية أن يحاسبها؟ ببساطة، هذه القيادات تخشى الخروج من مركز القرار والتحكّم. لا يمكنها العيش خارج السلطة لأنّ مصيرها محتوم في المحاسبة عن كل جرم ارتكبته.

اعتاشت على دماء الناس في زمن الحرب، وعلى أموالهم وأرزاقهم في زمن السلم. من يخرج منها عن السلطة يصبح منبوذاً من مجالسها، بلا شرعية ولا مال عام ولا خدمات يمكن توظيفهما في المصلحة السياسية. وهذا أكثر ما تخشاه. لا تخشى سقوط البلد واقتصاده وجوع الناس، وأي حلّ ستقدّمه سيأتي في إطار تعويم نفسها من بحر الأزمة. في قاموسها فصل مخصص للاستئثار بالسلطة.

استعادة المؤسسات
أمام سلطة مماثلة، حنّكتها العقود في التلاعب بالرأي العام والمشاعر الطائفية والزعاماتية، خفّ زخم الانتفاضة. وكان لهذا التراجع عوامل عديدة أبرزها تمكّن السلطة من إلهاء الناس بهمّهم المعيشي. بين سعر ربطة الخبز وانقطاع المحروقات، من كان يرفع شعار إسقاط النظام واستعادة المال المنهوب، بات يركض اليوم لتأمين بضعة دولات من مصارف السلطة. كما كان للعنف الميليشياوي دوراً أساسياً في كبت المنتفضين. ليس أمام هؤلاء إلا البقاء في الشارع. تراجعهم يعني عزلنا جميعاً. ولا يمكن أي يأتي زخم حركتهم في الميدان إلا من خطوات هجومية على السلطة لاسترداد المؤسسات التي صادرتها الأحزاب باسم الحكومة. لم يعد ردّ الفعل على زلّات السلطة يكفي. احتلال الوزارات والمرافق العامة والخاصة واجب إنساني. بدأت حركة بيروت في هذا الإطار ولو بخجل، في المصارف وجمعيّتها ووزارة الشؤون الاجتماعية. دخل المنتفضون، وتلوا ما يشبه البيانات على الموجودين ضد السلطة والرأسمالية. قدّموا خطاباً طبقياً واقعياً. بقيت حركتهم ضمن الأفراد، وبلورتها وتوسيعها واجب عضوي.

الزخم... العنف
تقول تجربة 17 تشرين أنّ كسر الخطوط الحمراء وحده يأتي بالنتيجة. زعزعة السلطة تمّت في الأيام الأولى نتيجة عنف شهدته الساحات. منع تهريب الجلسة التشريعية صار بالقوّة والحصار. ارتبط الزخم بالعنف، مرحلياً. ويشكّل تحديد موعد الاستشارات النيابية لتكليف رئيس للحكومة موعداً جديداً يمكن الاستفادة منه لإعادة الزخم إلى الشارع. هو موعد للعصيان والإضراب الجديّ وإقفال الطرقات ومحاصرة السلطة في صالوناتها البائسة.

فعلى جدران المدينة شعار خطّه المنتفضون: الشعب إذا جاع، يأكل حكامه. لن يأكلهم بشوكة وسكّينة، بل بشراهة غير مسبوقة. من جمهور الثورة من جاع، ومنهم أيضاً من بات على الطريق نفسه كما هي حال المستزلِمين أيضاً. جاع الشعب، وعلى موائده الكثير من الحكام والظالمين. جاع الشعب، ولن يشبع إلا في دولة عادلة تستعيد الأموال وتحاكم الفاسدين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024