ما مصير المخيمات الفلسطينية في فيدراليات الطوائف اللبنانية؟

أحمد الحاج علي

الخميس 2020/06/18

ليس صعباً على المراقب أن يرى تغيراً يحدث في لبنان والمنطقة، تصاحبه تصدّعات مجتمعية، ستلقي بآثارها حتماً على الوجود الفلسطيني في لبنان، كما خبرنا في الأحداث الماضية. ومع ذلك، لا يبدو أن قيادة الفصائل الفلسطينية، من خلال بيانها الأخير بعد التئام لقاءات هيئة العمل الفلسطيني المشترك، تستجيب لتلك التحديات والمخاطر. كالعادة، بيانات تطالب من دون أن تطرح حلولاً، وأحياناً تكتفي بالحنين الكئيب، عوضاً عن التحرر من الوهم وطرح برامج جادّة تُنقذ مجتمعاً يتهاوى، ضمن بلد ليس أقل تصدّعاً.

سقوط التفاهمات
لم تنتبه الغالبية الساحقة من الفلسطينيين إلى خبر معاودة اجتماعات هيئة العمل الفلسطيني المشترك التي تضم قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقوى التحالف والقوى الإسلامية. كما لم تبتهج، ولم تعلم ربما، بتأسيسها بتاريخ 4/9/2018، وتجميد عملها بعد أشهر.

لم يكن على القيادة الفلسطينية في لبنان أن تنتظر مبادرة الرئيس نبيه بري حتى تلتئم اجتماعاتها. كان عليها أن تعي الأخطار التي يعيشها الفلسطينيون من جرّاء الاهتزازات التي يشهدها لبنان والمنطقة، وعلى الأرجح ستترك تأثيرات لن ينجو الفلسطينيون في لبنان منها، وعليهم أن يتحضروا لها منذ الآن. الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان، التي يقول كثيرون إنها لن تبقى من دون انعكاسات أمنية وسياسية على اللبنانيين والفلسطينيين معاً.

يُطرح لأول مرة وبجدية، بعد الطائف، تغيير النظام. ذهب الزمن الذي كان فيه إنطوان نجم شبه وحيد في طرحه الفيدرالي، صار للطرح أنصار في بقية الطوائف. التفاهمات لفك الاشتباك سقطت، ما يجري هو محاولة لتنظيم عملية الطلاق، أي نظام بديل؟ وأي بديل لن يكون الفلسطينيون في لبنان بمنأى عن آثاره السلبية. هكذا تقول تجربة الحرب في لبنان التي قادت إلى محو مخيمات: النبطية (1974)، جسر الباشا (1976)، تل الزعتر (1976)، وهي شاهدة على أن ما يُدمّر من مخيمات لن يُعاد بناؤه. نهر البارد كان استثناء ولأسباب استثنائية، رغم أن (أرتوزيا) التيار الوطني الحر كادت تطيح بعملية إعادة البناء.

على القادة الفلسطينيين أن يأخذوا الطرح الفيدرالي هذه المرّة على محمل الجدّ. لأن ما يحدث في المنطقة من العراق إلى اليمن وليبيا وربما سوريا الجارة القريبة ليس بعيداً عما يُطالب به البعض في لبنان. كل ذلك يشير إلى أن الفيدرالية في هذا البلد لم تعد مجرّد رغبات وأمانٍ للخائفين. على الفلسطينيين أن يخشوا تلك اللحظة، فحوالى ثلاثة أرباعهم يسكن في داخل وما بين مدينتي صور وبيروت ومخيماتهما.

الفيدرالية لن تُنفّذ من دون حروب وتبادل ما أمكن من السكان. وأي اضطراب في التماسك الاجتماعي في أي بلد عربي سيكون الفلسطينيون وقضيتهم المتضرر الأكبر منها، ومثال ما حصل في الكويت، سوريا، لبنان.. هل فكّر قادة هيئة العمل الفلسطيني المشترك في تلك اللحظة وهم يعقدون جلسة المصالحة في سفارة دولة فلسطين؟

الانفجار الاجتماعي
بيان الهيئة لا يشي أيضاً بأن الحاضرين تناولوا بعمق الأزمة الاجتماعية المستفحلة في المخيمات وفي أوساط الفلسطينيين، والتي تعاظمت منذ إجراءات وزير العمل (تموز 2019) وصولاً إلى التدهور الاقتصادي في لبنان خلال الفترة الأخيرة، في ظل تراجع دور الأونروا في مساندة اللاجئين الفلسطينيين على الصعيد الاجتماعي، وعزوف الدولة اللبنانية عن أي تدخل إيجابي في الأزمة الاجتماعية التي يعيشونها.

يعرف كل مطلع على واقع المخيمات أن ثلاثة عوامل لعبت دوراً في منع الانفجار الاجتماعي الشامل خلال الفترة الزمنية القصيرة الماضية. أولها التضامن الاجتماعي، وثانيها الاستنفار الأقصى للاغتراب، وثالثها البرجوازية الوطنية الفلسطينية في لبنان على صغر حجمها، ورغم تضرر أوضاعها مؤخراً. لكن الفئتين الأخيرتين لا يمكن ضمان مساندتهما نظراً لتدهور أعداد كبيرة منهما.

هناك غياب شبه كامل للمشروع الاجتماعي للفصائل الفلسطينية، رغم أن هذا المشروع كان حاضراً منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، ولاعتبارات عديدة أولها المأساة التي عاشها اللاجئون الفلسطينيون، وما زالوا يعيشونها، لكن ليس الاعتبار الوحيد. فأنشئت صامد التي  وظفت 5000 عامل في لبنان بدوام كامل، في 46 مشغلاً. وحتى عام 1980 أنشأ الهلال الأحمر الفلسطيني تسع مستشفيات في لبنان تستقبل المرضى الفلسطينيين واللبنانيين.

الأوضاع الاجتماعية للفلسطينيين شكّلت هاجساً للقيادة الفلسطينية لسنين طويلة، فكانت هذه الأوضاع البند الأول في اتفاق القاهرة الشهير. ومن أولى النقاط التي فاوضت عليها منظمة التحرير منذ أن قررت الخروج من بيروت "يجب أن يكون مفهوماً بشكل جيد وجوب الحفاظ على حقوق الشعب الفلسطيني في لبنان". اليوم الوضع الفلسطيني أكثر صعوبة، مع ضغوط القوانين التي صدرت تباعاً بعد عام 1982، وإغلاق أبواب المطارات بوجه الفلسطينيين الذين يرغبون بالعمل في دول الخليج، بعد أن كانت مقصداً لهم منذ أوائل السبعينيات بشكل خاص.

"التهجير الناعم"
الفيدرالية والأزمة الاجتماعية ليستا الخطرين الوحيدين اللذين يجب على قيادة الفلسطينيين في لبنان التحسّب لهما. ضم أجزاء من الضفة، وما يمكن أن يستتبعه من "تهجير ناعم" للفلسطينيين إلى الأردن وربما دول مجاورة أخرى كلبنان، هو أيضاً خطر يتحسّب له كثيرون. الفلسطينيون في المناطق المحتلة في المثلّث وغيره هم أيضاً يعيشون هواجس التهجير منذ صدور قانون يهودية الدولة، ثم اقتراحات في الكنيست تدعو لتهجير من يرغب تحت إغراءات مالية، وبعدها جاءت صفقة القرن، كل ذلك ربما أثار هواجس من تهجير واسع قد لا يكون الأردن وجهته الوحيدة.

سقطت مقولة إن زمن التهجير صار من الماضي. لو أعاد كميل شمعون مقولته لبيغن "أعط الفلسطينيين دولة فأنت لم تعد تستطيع تهجيرهم"، فلن يغضب بيغن هذه المرة، وربما يردّ إن تهجير عشرة ملايين سوري فتح باب التهجير من جديد. قد لا  يكون بعيداً زمن ردّ الاعتبار مجدداً لمقولة بن غوريون "خير مفسر للتوراة هو الجيش الإسرائيلي" من خلال دفع  الفلسطينيين نحو اللجوء. وهم يعرفون معنى ذلك على صعيد تفاقم التمييز. هل فكّر القادة الفلسطينيون في ذلك حين عادوا للقاءاتهم ضمن هيئة العمل الفلسطيني المشترك؟  

بؤر للجريمة
هناك شك كبير أن يكونوا قد فكّروا. على الأقل، هذا ما يقوله العجز الكبير (وربما التواطؤ) قبل أيام في مخيم شاتيلا، عن اعتقال تجار مخدرات أدّى اشتباكهم إلى قتل امرأة وهي تحمل طفلها، في وقت تجند فيه الفصائل الفلسطينية عشرات من عناصرها لحماية مركز أمني أو حتى نفوذ في زاروب بمخيم. مخيم شاتيلا، الذي كان يفاخر يوماً أنه المشارك الأكبر عددياً في عملية ميونخ، وقع تحت سطوة تجار المخدرات، وسط غياب فصائلي تام. هل أشعل هذا الغياب الميول الانتحارية لدى جزء من الشباب من خلال التوجه للمخدرات؟

هل كان مخيم الرشيدية حاضراً في اجتماعات هيئة العمل الفلسطيني المشترك وهو الذي شهد مؤخراً أكثر من جريمة قتل؟ وأحدثت هذه الجرائم وغيرها جرحاً نرجسياً لمخيم تطلبت السيطرة العسكرية الإسرائيلية عليه عام 1982 فرقة إسرائيلية كاملة خاضت قتالاً مدة أربعة أيام تكبدت خلاله العشرات من القتلى والجرحى.

عاش كثير من الفلسطينيين، خلال سنوات، على وهمٍ أن المجتمع الدولي يشكّل مظلة للمخيمات. وهمٌ عاش شبيهه اللبنانيون بأن المجتمع الدولي لن يدع لبنان يسقط. النتيجة ما نشاهدها، وعلى الفلسطينيين أن يتعظوا مما جرى، فقد سقطت الكثير من دفاعاتهم. عليهم أن يضعوا خططاً تناسب الواقع والمرحلة. وأن يحددوا غاية سلاحهم، ودوره، بعيداً من الأوهام. أي مخيمات نريد، وهل ما زالت تصلح للتطور الاجتماعي، وما البديل، وكيف تحقيقه؟

علاقات مع الجميع
لمواجهة هذه المخاطر على القادة الفلسطينيين أن يوسعوا دائرة الحلفاء أو يقللوا من الخصوم، فأزمة العمل العام الماضي، أثبتت أن ضعفاً كبيراً في هذا المجال، خصوصاً حين الامتناع عن لقاء وزير العمل وقتها. وبدوا كأنهم أسرى لمرحلة معينة من الحرب، متجاوزين واقعة أن القيادة الرسمية الفلسطينية في بداية الأحداث الأهلية ترددت في عزل الكتائب، وهناك اعترافات فلسطينية مهمة "لقد ارتكبنا أخطاء.. عاملنا اليمين اللبناني (الكتائب) كمعسكر معاد" (تصريحات سلامة في كتاب الجاسوس النبيل). والمحاولات لم تهدأ لتجاوز تلك الحرب من خلال اتصالات دائمة بقادة "المعسكر اليميني" حسب الوصف الشائع آنذاك. فلا بد من علاقات متكافئة ومفتوحة مع كل الجهات اللبنانية تحمي ما تبقى من لاجئين فلسطينيين في لبنان.

على القادة الفلسطينيين في لبنان أن لا يكتفوا بالبيانات والمصالحات فقط، إذ لا بدّ من خطة تدرك الواقع والمخاطر، في وقت أصبح للعرب أكثر من قضية. فالأحلام لا تهدئ الجراح إلاّ مؤقتاً، والشعر لا يصلح في حضرة السياسة. وكما يقول اللاجئون الفلسطينيون في لبنان إنهم ينتظرون من قادتهم عملاً يغير في واقعهم البائس، ويقيهم الخوف على مستقبلهم، لا بيانات حفظوها لكثرة التكرار.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024