الاستشفاء في لبنان: أين أنتِ يا إيطاليا؟

وليد حسين

الأحد 2019/08/11
منذ اثنتي عشرة سنة، رفضت إحدى مستشفيات لبنان المرموقة استقبال أمي لإنقاذها من نزيف في الدماغ جراء حادثة تعرضت لها. تذرعت المستشفى بعطل في آلة التصوير الشعاعي، فتوفيت أمي بعد أيام قليلة بسبب تأخر نقلها إلى مستشفى بديل. خافت المستشفى حينها على "صحّة" أموالها، وربما بسبب تأخر الضمان الاجتماعي عن تسديد مستحقاتها.

كنت آنذاك أتابع دراستي في إيطاليا، وكنت أعاني من ألم حاد في الرأس ودوار دائم، فذهبت إلى طبيب المحلّة التي أسكن فيها. بعد الكشف السريري، كتب الطبيب تقريره وطلب مني التوجه فوراً إلى قسم  الطوارئ في المستشفى. وعلمت لاحقاً أنه شكّ بورم ما في رأسي.

كانت الساعة حوالى العاشرة ليلاً، عندما خرجت من المستشفى في مدينة غوريتسيا الإيطالية، مصدوماً لأنهم لم يطالبوني بدفع قرش واحد لقاء الفحوصات الكثيرة التي أجريت لي، طوال ذاك اليوم: من الفحص السريري، إلى تخطيط القلب، وفحوصات الدم، وصورة الرنين المغنطيسي للرأس. بكل بساطة طلب مني الطبيب المعالج الذهاب إلى البيت للراحة، رداً منه على استفساري عما يتوجب عليّ سداده لقاء الفحوصات: "لا يتوجب عليك أي شيء، فأنت دخلت بحالة طارئة".  

كان قد مضى على إقامتي في إيطاليا أقل من سنة، ولا أزال متوجّساً مما أعرفه وخبرته في مستشفيات لبنان وتكاليفها الباهظة. وهذا ما حملته معي إلى إيطاليا. حتى أنني أصبت برهاب الكلفة المالية، كلما اصطحبني ممرض إيطالي إلى فحص ما، فأقول  في سرّي: ترى كم سيكلفني هذا الفحص؟ وهل يستدعي ألم في الرأس كل هذه الفحوصات؟ ألا يدرك هؤلاء أنني طالب أعيش من منحة دراسية، ولا أملك مالاً لكل هذا الترف الطبي؟! وفوجئت في نهاية ذاك اليوم بكلام الطبيب الذي طلب مني الترفيه عن نفسي، وعدم الانكباب طويلاً على القراءة والتحضير للامتحانات!

خرجت مصدوماً وفرحاً، فاتصلت بصديقي الإيطالي وأخبرته بما حصل، فسخر مني قائلاً: "أنت هنا في إيطاليا، والدخول إلى طوارئ المستشفيات برمز أحمر كحالتك، مجاني، كون هذه الحالات إنسانية في الدرجة الأولى". وعندما حاولت شرح هواجسي المالية التي رافقتني طوال اليوم، قال: "لست في لبنان يا صاحبي، الصحة هنا من الخدمات الأساسية للمواطنين". فتذكرت الحادث الأليم الذي ألمّ بأمي التي كانت بحاجة للعلاج أكثر مني، ولم تجد مستشفى يعالجها في لبنان.

في الأمس، عندما ولد ابني راوي، كان يحتاج إلى المكوث في غرفة العناية الفائقة الخاصة بحديثي الولادة، للحصول على علاج داء "الصفيرة"، كما أخبرنا الطبيب المعالج، الذي طلب مني التوجه إلى مكتب الدخول لفتح ملف مالي جديد منفصل عن والدته، لبدء إجراءات علاجه.
ذهبت إلى صندوق المحاسبة واستغليت الفرصة، فطلبت ملف زوجتي التي خضعت لعملية ولادة قيصرية، تمهيداً لخروجها من المستشفى. وعلى الرغم من كونها مغطاة بتأمين صحي دولي مئة في المئة، أرغمت على دفع 310 الآف ليرة فرق تأمين، بحجة أن تأمينها لا يغطي كل تكاليف العملية. دفعت "متل الشاطر"، إذ لا مجال لنقاشات مع المستشفيات، فهي لن تفضي إلى نتيجة، وكان همي الوحيد مصير راوي.
ذهبت لفتح ملف له، فطلبوا مني إيداع مبلغ من المال، وقال الموظف: "قد ما معك، ميتين تلاتمية دولار، لا مشكلة". قلت له إنه مغطى بتأمين والدته، ولم يخرج من المستشفى بعد، فقال: "هيدا مجرّد تأمين وبيرجعلك".

بعد يومين أخبرتنا الممرضة أن صحة رواي باتت جيّدة، ويمكننا اصطحابه إلى المنزل. كانت الساعة حوالى التاسعة صباحاً، وقالت أنها أرسلت الملف إلى مكتب الدخول لإنهاء معاملة الخروج. تأخرت، فذهبت حوالى الساعة الواحدة لمعرفة سبب التأخير في المعاملة. طلبوا مني التوجه إلى صندوق المحاسبة، ففوجئت بقول الموظف: "ألف وسبعمئة دولار لو سمحت". كنت أتوقع طلب مبلغ مشابه للمبلغ الذي دفعته عن زوجتي، بذريعة عدم تغطية التأمين حفاضات الأطفال مثلاً! أدرت رأسي مستغرباً: "لشو هـ المبلغ بالله عليك"، فقال الموظف: "التأمين لم يوافق على التغطية، راجع تأمينك، نحنا ما خصّنا".

راجعنا شركة التأمين الأجنبية، فيتبيّن أنها أرسلت للمستشفى قبل يوم من خروج راوي عدم موافقتها، بسبب نقص في الأوراق المطلوبة. لكن إدارة المستشفى لم تخبرنا بهذا الخلل. وبعد جدال حول هذا التصرف المستغرب، رفضتُ الدفع وتواصلت مع أحد مستشاري رئيس الجامعة القيّم على المستشفى، فعالج المسألة على الفور، مختتماً هذا اليوم المشؤوم بتعهد خطي مني بالدفع في حال عدم اعتراف شركة التأمين بتغطية العلاج.

قد لا تجوز المقارنة بين إيطاليا ولبنان،. فهناك الصحة خدمة أساسية للمواطن، ولبنان الصحة فيه باب للربح والتجارة. ولسوء حظنا أننا نعتمد بشكل أساسي على المستشفيات الخاصّة، التي تفضّل "الزبون" الذي يدفع نقداً، على استقبال المرضى الذين يتطببون على حساب "الوزارة" أو "الضمان". لذا نلجأ إلى شركات التأمين الخاصة وندفع لها أموالاً طائلة لنتجنب الأعباء الإضافية التي يتكلفها مرضى "الضمان" أو "الوزارة"، ولتجنب الموت على أبواب المستشفيات بسبب رفضها استقبال المرضى، على ما حصل مع أمي، ويحصل دائماً. لكن المستشفيات تقف لنا بالمرصاد باحثة في جيوبنا عن كل قرش بذرائع مختلفة.  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024