منتحرا الحمراء ووادي الزينة: مشاهد حياةٍ كالحة

محمد أبي سمرا

الجمعة 2020/07/03
هذا المشهد الفوضوي الكالح، كصباح نهار الجمعة 3 تموز الجاري، مقززٌ ويكاد يكون عادياً هذا القرب والإلفة بين الحياة والموت قتلاً ذاتياً، أو انتحاراً، في أحد مدخلي مسرح المدينة في شارع الحمراء.

حياة عادية 
الرجل المدد منطرحاً بلا حراك على بلاطات المدخل، مغطى الوجه بخرقة مبقعة بدم قليل لم يتخثر بعد، تحت رأسه وخصل شعره. ليس جثةً ولا يشبه الجثة.

قد ينتفض، أو يرتجف ارتجافات الحياة الأخيرة في جسمه، وسط دبيب الواقفين المتحلقين حوله، أو الداخلين إلى متجر الثياب ملتفتين إليه ممدداً على مسافة مترين أو ثلاثة، وكذلك العابرين على الرصيف متلكئين وملتفتين إلى الجمهرة الصغيرة بنظرات متسائلة، فيما الجالسون في المقاهي يتحادثون أثناء ارتشافهم قهوة الصباح.

هذا التجاور بين الساعين في حياة يومية عادية كالحة، وبين القتل الذاتي الطازج الدم، يلغي أي شعور بانفصال الموت والموتى عن عالم أحياء الحياة الدبقة، في انتظار حضور المحققين معايني القتيل ورفع البصمات عن الجثة الممددة.

علم لبناني وسجل عدلي
في تناقل الخبر على وسائط التواصل كتبوا أن الرجل الممدد من الهرمل، ومديون بأربعة آلاف دولار. وقال أحد المتحلقين أمام مسرح المدينة إن المسدس الذي أطلق منه النار على رأسه، مرمي بين رجليه. وفي الخبر المتناقل كتبوا أنه صرخ: "لبنان حر ومستقل"، لحظة إطلاقه الرصاصة. وذكروا اسمه. وفي صورة فوتوغرافية لآنية فخارية لزرع النباتات على مدخل الانتحار، هناك بطاقة شخصية للمنتحر وسجل عدلي مكتوب عليه "لا حكم عليه" وعلم لبناني صغير. وهذا إضافة إلى قطعة كرتون كُتب عليها باللون الأحمر: "أنا مش كافر". والأرجح أن هذه الأشياء كانت في حوزة الرجل، وتقصّد إبرازها وتركها شهادة منه في لحظة إطلاقه النار على رأسه، وتهاوي جسمه وارتعاشاته الأخيرة على البلاط.

وجاء المصورون الصحافيون، والمارة يقفون قليلاً ويتابعون سيرهم، والجالسون في المقاهي يستمرون في تحادثهم. وجاء رجال قوى الأمن الداخلي ومرت أربع آليات أو ثلاث للجيش اللبناني وسط زحمة الشارع.

عازف غيتار شاب
ويمكن سماع كلمات كثيرة عن الحادثة بين العابرين: عن الدولار والجوع والفقر والنهابين والحكومة والسياسيين والبلاد المنهوبة. ويزداد مشهد فوضى دبيب الحياة في الشارع كله إمعاناً في رماديته الدبقة. على مسافة أمتار قليلة شاب يجلس على درجات مدخل متجر مقفل، يعزف على غيتار. أمامه على الرصيف جعبة الغيتار منطرحة عليها ثلاثة أوراق من فئة الألف ليرة لبنانية، وبعض قطع العملة المعدنية.

بائع الجرائد والكتب قرب ما كان سينما الحمراء، يقول فجأة إن الرجل الذي كان يحادثه وانصرف لتوه، أصر على أن لدى بائع الجرائد مئة دولار، ويريد الحصول عليها منه ليعطيه بدلاً منها ما يوازيها من العملة اللبنانية. وراح بائع الجرائد يحلف بالله وأهله أن ليس لديه دولار واحد.

منتحر وادي الزينة
وفي لحظات مباشرة كتابة هذه الأخبار، ورد خبر آخر عن انتحار شاب شنقاً في منزله في وادي الزينة، القريبة من صيدا. وفي الخبر عن انتحاره أنه مساء أمس الخميس كان يحادث صديقاً له وقال له إنه لا يملك ثمن طعام لابنته. وهو يعاني أصلاً من خلل نفسي، وكان يعمل سائق "فان" لنقل الركاب إلى بيروت. لكنه توقف عن عمله هذا منذ مدة. وهو يقيم في مجمعات داوود العلي السكنية في وادي الزينة.

لا مشهد ولا طلب نجاة
ووردت شائعة عن انتحار ثالث في الشوف. وهذا لا بد أن يذكّر بسلسلة محاولات الانتحار حرقاً في نهايات انتفاضة 17 تشرين. لكن منتحريّ صبيحة نهار الجمعة هذا، يختلف إقدامهما عن محاولات الانتحار المشهدية تلك: لا يتوخى المنتحران الإعلان المشهدي وسط الجموع.

فمنتحر مدخل مسرح المدينة قتل نفسه برصاصة من مسدسه، وعن سابق تصور وتصميم، من دون أي رغبة لديه في احتمال النجاة، أو أن يبادر أحد إلى إنقاذه. والمنتحر الثاني شنقاً في بيته بوادي الزينة، أشد إمعاناً من الأول في اللامشهدية. فهو فعلها وحده منفرداً ومنزوياً، وربما لم يترك شهادة على فعلته مثل الأول.

بيان الثأر للشهداء
وظل المنتحر على مدخل مسرح المدينة ساعتين أو ثلاثاً، منطرحاً في مكانه وسط الجمهرة، فيما كان خطباء صلاة الجمعة في المساجد ببيروت يسترسلون في خطبهم وأصواتهم الملعلعة في فضاء المدينة التموزي المكفهر الكالح.

وفي الأثناء تداعى ناشطون على وسائط التواصل، فوزعوا بياناً لتظاهرة احتجاجية في شارع الحمراء. وكتبوا في البيان الذي ينقل شهادة المنتحر: "إلى السياسيين وأصحاب المصرف، لن نموت وحدنا، ستدفعون ثمن فسادكم دماءً. والشهداء أمانة في رقابنا. سنثأر!".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024