لبنانية-إفريقية: السود هنا بينكم ولا أريد شفقتكم.. أريد حقي

زينب كنعان

الأربعاء 2020/06/03
مع بداية الأحداث في أميركا، بعد قتل الشرطة الأميركية المواطن الأسود جورج فلويد، رحت أراقب الغزل اللبناني بالأفارقة والسود.

وحدي أُناصِر نفسي
مارست على نفسي رقابة تجعلني حذرة من السماح لنفسي بالتحدث باسم الأفارقة، على الرغم من أني ابنة امرأة أفريقية، ونشأت مع جدتي الخليط من أم إفريقية وأب لبناني أبيض.

أعلم أنّ ما عانته أمي لا يشبه ما عانيته على الرغم من تقاطع الأذى الذي أحدثه الرجل الأبيض فينا والموروثات المتأصلة فيه وفي بيئته التي نشأت فيها. لكنني سمحت لنفسي بالأمس أن أحكي شيئًا من تجربتي في "بوست" لم أتوّقع أن يكون له هذا الصدى. ربّما لأنّني صرخت كثيرًا في ما مضى، وبكيت علانية وسرًّا، ووجدتُ نفسي المُناصِرِة الوحيدة لنفسي في المجتمع اللبناني.

الإرث الكبير
ولدت في كامبيا - سيراليون، من أم أفريقية وأب لبناني. وعلى الرغم من أن أبي ولد في أفريقيا، فقد حمل انعكاس فائض القوّة لدى الرجل الأبيض، من دون أن يعي ذلك، ربّما!

كانت أمي الضحية الأول، وكنت أنا الضحية الثانية. فتلقيتُ بجلدي وقلبي ما ورثه اللبنانيون من عنصرية عن قصد أو من دون قصد.

إن أردت الغوص في تجربتي التي تشاركني فيها الكثيرات من النساء اللواتي هنّ خليط، من أم أفريقية ورجل لبناني، سأحتاج إلى صفحات تتفرّع الأحداث فيها وتتفرّع، فلا تنتهي. أحداث أحملها منذ صغري، حتّى أنّها تعود إلى ما قبل ولادتي!

"سودا"، "سيرلانكية"
استفزتني منشورات اللبنانيين على فايسبوك، تلك التي تقصد التعاطف مع السود في أميركا. والاستفزاز الذي أصابتني به مرهق، لأنه يعود بي إلى تفاصيل قاسية عانيتها في حياتي وحدي مع جدتي لسنوات.

لا أذكر متّى بدأتُ ألحظ الاختلاف بين أقراني ورفاق الحيّ. ولكنّي أذكر خوفي من الخروج وحدي إلى فرن في ضيعتي، لأشتري منقوشة زعتر. كنت أخاف أن أسمع كلمة "سودا". ومن قال إن الأطفال إن كبروا نسوا؟!

لا زلت أحمل في قلبي كلمة "سيرلانكية" إلى الآن قلادة على عنقي. حتى أني اقتنعت أنني "سيرلانكية"، لا لشيء سوى لأن ما سمعه أقراني في طفولتهم من ذويهم، هو موروث لا يميز بين الجنسيّات التي ينظرون إليها نظرة دونية، شبه عنصرية.

أمي من سيراليون. وبشرتي السمراء إفريقية. لكنّ السيرلانكيين، الأثيوبيين، البنغلادشيين، النيجيريين كلهم سواسية في نظرة اللبناني التي تنطوي على التمييز العنصري! كلنا سود، كلنا "عبيد"!

كرهت نفسي وأمي
تكبر هذه الفجوة بين نفسي وشخصيتي مع الوقت ومع الزمن. كلمّا كبرت وانتقلت من مرحلة عمرية إلى أخرى، زاد ثقل ما أحمل فوق كتفي من تمييز وتنمّر، يجعلان ثقتي بنفسي تنخفض وتنتكس، من دون أن أعي، فأدخل متاهات من الصراع النفسي الشخصي. صراع مع معايير تنميط الجمال، مع الشخصية القوية التي حظيت بها قريباتي، وأخرسها المجتمع فيَّ.

من قال إن المراهقين ينسون؟!

كنت في الصف السابع عندما سمعتهم يقولون عني: "زنجيّة، زنجية". في المرة الأولى تلك، كانت هذه الكلمة مجرّد مصطلح مترجم في الأفلام الأجنبيّة. لكنها تحوّلت إلى حرارة في رأسي، فصلتني عمّن حولي من زملائي في الصف، وجعلني في منتصف الدائرة: "إما أن تدافعي عن نفسكِ بنفسكِ، يا زينب – قلت أو فكرت - إما أن تسمحي لتلك الابتسامته الصفراء أن تربح". لا شعوريًا يومها أخذتُ وضعية الهجوم: لا إرادياً رفعت ذقني وكتفاي، وصرخت به. لا أذكر ما قلته. أذكر أنني رميته بحقيبتي، وأفرغتُ شيئًا من قوة مصطنعة، وعدت من المدرسة إلى البيت لأبكي. بكيت لأني كنت أكره نفسي، أكره لوني، أكره شعري المختبئ تحت الحجاب الذي يشي بأنّني مختلفة. بكيت لأني كرهت أمي.

صلف وراثي
من قال إننا ننسى؟! يستخدم بعض اللبنانيين مصطلح "نيغا" تعريبًا لمصطلح “Nigger” أو “Nigga”.

من قريبة لي سمعت هذه الكلمة للمرة الأولى. كانت تصغرني بسنوات كثيرة، وعادت من أميركا. صُدمت. فكيف لطفلة أن تراني في هذه الخانة. أستغرب اليوم كيف ربطتُ وقتها بين ما قالته قريبتي، وبيئتها العائلية البيضاء في أميركا، والتي ترى أن السود مخيفون، بأحيائهم، بعصاباتهم. وكيف للعائلة البيضاء في لبنان أن تخاف من الطفلة الوحيدة الغامقة البشرة؟! وكيف اكتسبت هذه الطفلة الجرأة أن تنعتني بهذا المصطلح، لا لشيء سوى أن موروثاً زودها بالقوة الصلفة.

وولّد الحال والموقف صراعاً مع نفسي: كيف لي، أنا ابنة الخامسة عشر، أن أغضب من طفلة في العاشرة ؟! لكني لا زلت أذكر هذا المصطلح. فكلمة "نيغا" يختلف وقعها علينا، إذا قالها صاحب بشرة سوداء، عما إذا قالها لبناني.

خسارات لا تعوّض
في الحقيقة، الحال أشبه بحلقة ندور فيها إلى ما نهاية. وعلمت أنّه يجب كسر هذه الحلقة، مذ سمعت جدّتي تقول: "لم أشأ أن تتحدثي اللغة الإفريقية المحكية في سيراليون، لكن خالتك (اللبنانية أمًا وأبًا) رفضت قائلة إنها لغة، لا تحرميها اللغة".

جدّتي هذه هي أمي التي ربتني. وهي من أم أفريقية وأب لبناني، لكنّها من دون قصد مارست ما مارسه الرجل الأبيض، لأنها وقعت ضحية السلطة البيضاء.

كانت جدتي تظن أن للبيض وحدهم الأحقية في دخول الجنّة. أذكر كيف شرحت لها يومًا عبارة "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى وإن أكرمكم عند الله أتقاكم". أذكر كيف قالت "الحمدلله"، وكأنها حصلت على ضمانة الدخول إلى الجنّةَ!

إنها حلقة ندور فيها وندور، فلا نجد لأنفسنا سبيلًا سوى النضال. للعنصريّة أثرها علينا في كل شيء، وخصوصاً في نظرتنا إلى أنفسنا. نتشارك قصصنا وتجاربنا نحن النساء الخليط من أم إفريقية وأب لبناني. نتشارك خسارتنا تقدير أنفسنا على مرّ سنوات. وكيف خسرنا التنعّم بجمالنا، والتفاصيل التي ولدنا بها وميّزتنا.

في مرحلة المراهقة رأيت أنيّ "بشعة"، وأرغب اليوم بأن أحتضن نفسي لأعوضّها ما قاسته في المراهقة. ربطت الحب بالفتيات الشقروات، أو ذوات البشرة البيضاء. وردّدت في صدري ما سمعته من المحيط: "دخيل الشقار"، "دخيل العيون الزرقا". لا أملك هذه الصفات لن يكون لي حبيب.

طيّبات.. للجنس
أكمل الرحلة في الحلقة القاسية المفرغة. أصل إلى مرحلة الشباب. تصدمني نظرة الرجل اللبناني لنا، نحن الخليط من أم إفريقية وأب لبناني. يروون أننا صالحات للجنس، فقط للجنس.

تعود بي الذاكرة إلى حادثة قديمة نسبياً. لم أكن قد بلغت الثامنة عشر. كنت في سيارة أجرة مع جارتي، فسألها السائق عن قرابتها بي. فأجابته إنني ابنة الجيران. نظر السائق في عيني في المرآة أمامه، وقال: "هيدول طيبين"!

لو تعلمون كيف أكتب هذه الجملة الآن، وكيف تستنفر الدموع في عيني. دموع هي صدى وقاحة ذاك الرجل، وصمت جارتي! هذه هي نظرة الرجل اللبناني لنا. ربّما يرتبط ذلك بكبته، وبما اقترفه من سلطة واستغلال واحتقار للنساء والرجال في إفريقيا. يرى فينا أننا صالحات للجنس، لا للحب ولا للزواج الطهور.

لو تعلمون كم هي مكلفة هذه الفكرة. تجعلنا نخاف الحب، نهاب العلاقات العاطفية. ناضلت مدة طويلة لأخرج من رأسي فكرة أني غير جديرة بالحب، لأني لا أملك معايير الجمال، ولا أصلح إلا للجنس!

البلّان وسيف العبد
أما جمالنا فقد قوّضوا سحره الخاص وطمسوا فينا هويته من أجل "لبننتنا"، أي أن نظهر كلبنانيات!

أنا مثلًا، أخضعت شعري لجلسات تمليس في صغري. مثلي فعلت صديقتي، فاحترق شعرها، ولا زالت إلى اليوم تعاني في عدم شفائه. وهذا كله لنُظهر أننا لبنانيات، ولنتجنّب مصطلحات مثل "جبّ البلّان" أو "سيف العبد"!

والطامة الكبرى أننا تشرّبنا هذه المصطلحات، حتى أطلقناها نحن على أنفسنا!

إن تلقينا عبارات إعجاب بنا، لا بدّ من أن نربطها بلون بشرتنا. نسمع كثيرًا عبارة: "أنتِ جميلة، على الرغم من أن بشرتك سمراء" أو "سمارك حلو، لستِ سوداء بل فاتحة".

من قال إن صاحبة البشرة السوداء ليست جميلة؟

ولمَ يجب أن أبدو أفتح بدرجات، وأقرب إلى للون الأبيض كي أكون جميلة؟

من قال إن البشرة السوداء عارٌ، كي تلطفّها عبارات مثل "أم سمرا" أو "أبو سمرا"؟

فظيع ما اقترفتم
لا، لا تطلقوا علينا هذه العبارات. لا، لا تحاولوا أن تخففوّا من فظيع ما اقترفتم من تنمّر وجلد على مرّ هذه السنوات، بعبارات مثل: "قلوب الأفارقة نقيّة"، "أصلًا السمار حلو من شو بيشكي". 

ولا، لا تخبرني أيها الرجل الأبيض كيف ترى إفريقيا، جمال إفريقيا، وسحر إفريقيا. وأنا أعلم أنك سرقتم الأفارقة. وأعلم بشاعة عبارتك: "تغيّر الأفارقة اليوم، تفتحّوا.. أصبح لهم صوت".

هذا موضوع نقاش آخر طويل.

يستفزني تعاطفكم، وأنا أسمع أختي من على الطرف الثاني من العالم تخبرني كيف ما زلتم تمارسون استغلالكم لأجسادنا.

لا، لا تتضامنوا معنا بسيل من الرسائل التي تذكرني بعبارة "طنشيهم" أو "قولي لهم الأسمر أجمل". ولا تقولوا لأولادكم هذه العبارة أبدًا: "حرام ماما، ما تقول أسود". هذه العبارات تشعرنا، أو أقله تشعرني، بأنكم ما زلتم تمنحون أنفكسم حق استعبادنا، وحق فوقيتكم علينا، والشفقة بنا على ما عانيناه ونعانيه.

لا أريد الشفقة. أريد حقي.

طريق الشفاء
لا خاتمة لمقالي. لا أطلب منكم منّة. أعلم جيّدًا كيف أخوض نضالي هذا. وأمي تعلم كيف تكمل طريقها الوعر وحدها.

أشعر بالحزن الشديد. إنني أملك صوتي. أرسلت قصتي التي أخجل أن أرويها لصديقاتي اللواتي هربن من هذا البلد، باحثات عن جمالهن المقموع، وهربًا من تنميطكم وعنصريتكم. أخجل من العاملات المهاجرات. من العاملة التي رافقتني من صور إلى صيدا، وخلفها رجلان وامرأة تقيّأوا عنصريتهم على مسامعها، وتنمرّوا على شعرها المجعّد طوال الطريق: "إذا بولّع فيه قشة كبريت، شو ريحة رح تطلع!". سمع ركّاب الفان جميعهم هذه الجملة. لم يتدّخل أحد منهم. بل إن بعضهم ضحك مسروراً. بالطبع لم تنطق العاملة كلمة واحدة. وما أن نطقت أنا، حتى قال أحدهم: "لأنها متلها".

أعلم كيف أخوض طريق الشفاء. لقد علّمت نفسي في ذلك اليوم، عندما رفعت صوتي في وجه من ناداني بالزنجيّة: أرفع ذقني، أرفع كتفيّ، وأشدّ قبضتي.

لكن ابدأوا من أنفسكم، ليس منّة منكم، بل حق لنا عليكم. لمَ علينا أن نحمل مشقة طريق الشفاء من الطفولة إلى اليوم، لمَ؟!

لمّ عليّ أن أكتب هذه الصفحات وأبكي غضبًا؟

نحن هنا أيضًا. السود هنا أيضًا.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024