شحُّ الأمطار الفادح: هل يعطش اللبنانيون مع الإفلاس والوباء؟

لوسي بارسخيان

الثلاثاء 2021/01/12
أسوأ ما يختبره لبنان منذ نحو عام - بدءًا من جائحة كورونا، إلى الإفلاس المالي ونضوب الموارد المالية وانعدام الفرص بتجدد الحياة الاقتصادية، والتدهور السياسي والأمني - هو اختبار هذا كله في ظل سلطة عاجزة عن وضع خطط واستراتيجيات للنهوض. لذا يصبح كل اختبار جديد مصيبة جديدة، حتى لو كان الأمر يتعلق بالطبيعة وعبء شح متساقطاتها الثقيل في شتاء 2020-2021.

شح الأمطار
يظهر آخر تحديث لأرقام محطة الأرصاد في مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية فجوة كبيرة في كميات المتساقطات بين شتاء العام الجاري ومتساقطات الموسم السابق ومعدلها العام للسنوات الماضية.

ووفقا لهذه الأرقام فإن مجموع كميات الأرقام التي سجلت في 9 محطات تابعة للمصلحة، بلغت حتى يوم الإثنين 11 كانون الجاري 3367 ملمترًا، بمقابل 4081 ملمترًا عن اليوم نفسه من شتاء 2019-2020 و5090 ملمتر للمعدل السنوي العام. وسجلت محطة لبعا قرب صيدا وحدها ارتفاعاً في الهطولات، مقابل تراجع كمياتها في المحطات الباقية. 

ورغم أن الأرصاد الجوية تتوقع هطولات إضافية سيشهدها لبنان بدءًا من صباح الخميس 14 كانون الثاني الجاري، تؤكد مصلحة الأبحاث أن العاصفة المقبلة شتوية اعتيادية، لن تحمل كميات استثنائية من الأمطار. وتجزم مصادر المصلحة أنها لن تكون كافية لتعويض العجز في هذا الموسم حتى الآن.

كثرة النفايات
وتكشف جولة ميدانية على بعض أجزاء الحوض الأعلى لنهر الليطاني، جمود مجراه الذي يشهد البقاعيون على مياهه الهادرة في مثل هذه الايام من السنة.

وتطغى على مشهد المجرى حالياً كميات من النفايات الصلبة أو السائلة، التي ما أن تُزال من أماكن محددة حتى تجتاح المشهد مجدداً، فيما تستمر المماطلة في تنفيذ المخططات والدراسات الموضوعة لحماية الحوض وإزالة التعديات عليه.

ولا ثلوج
ويبدو المشهد حالياً في معظم أنهر لبنان، شبيها بفترة النضوب والشح في نهاية موسم الصيف. ولا يبشر غياب الثلوج عن المرتفعات حتى الآن، باحتمال تجدد مياه الأنهار في فترة تفجر الينابع بداية موسم الربيع، إلا إذا حملت الأيام المتبقية من موسم الشتاء كميات استثنائية من الثلوج. وهذا بعدما سقطت هذه الثلوج من حسابات "فحليّ" الشتاء، أي شهري كانون الأول وكانون الثاني.

لكن انحسار الأمطار وتراجع المتساقطات لا يعد سابقة في مواسم لبنان. فالمؤشرات الطبيعية تتحدث عن تحول التغير المناخي إلى صيرورة دائمة، في ظل توقعات انخفاض إضافي في معدلات المتساقطات وأوقاتها، مترافقةً مع ظواهر مناخية غير مسبوقة تشكل خطراً حتى على نوعية التربة، وكميات الثروة المائية المخزنة، وعلى البيئة عموماً.

لا سياسة مائية
وحسب الخبير البيئي ناجي قديح نشهد منذ سنوات في لبنان تغيراً مناخياً، وتغيراً في مستويات المتساقطات، وكمياتها وطريقة توزيعها. وهذا برأيه ليس السبب الرئيسي والأساسي للمشاكل المائية في لبنان. بل أن علة العلل تكمن في شح السياسات المائية. فلو كانت سياساتنا جيدة واستراتيجياتنا مبنية على قاعدة التنمية المستدامة والاستثمار العقلاني للموارد، لكنا قادرين على التكيف مع آثار التغير المناخي. أما بغياب السياسات العقلانية والسليمة والاستراتيجية، فيتحول أقل مشكل إضافي إلى أزمة.

ولكن حتى في ظل ما نشهده من تغير مناخي عالمي، وتغير في الظواهر الطبيعية، يؤكد قديح أن كميات المياه التي يحتاجها اللبنانيون لاستخداماتهم المختلفة، متوفرة نظرياً. وهي تفوق حاجتنا. لكن القطاعات كلها تعاني من نقص مائي. وبرأيه أن هذا النقص ناتج ليس عن شح في الموارد المائية، بل عن سوء إدارتها واستثمارها، وغياب الخطط الفعالة للاستفادة منها.

وكان قديح ممن أضاؤوا على تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أعد منذ سنة 2014 ولا تزال معطياته سارية حتى الآن. ويتحدث التقرير عن غياب استراتيجية رصد رسمية ومستدامة لموارد المياه في لبنان، الجوفية أو مياه الأنهار والينابيع. وغياب جردة وطنية للآبار الأرتوازية، التابعة للدولة، وتلك التابعة للقطاع الخاص، المرخصة منها وغير المرخصة. وكلها يمكن أن تؤمن معطيات موثوقة عن المياه السطحية ومياه الينابيع.

خطط هوائية
وانطلاقاً من هذا الواقع، يصبح البحث عن أرقام علمية عن تأثير انحسار الأمطار على كمية الموارد المائية المتوفرة في لبنان، ضرباً في الرمل.

وهكذا يتحول الكلام عن خطط "عشرية" أو خمسية أو غيرها لتأمين اكتفاء مائي، سواء للشرب والاستخدامات المنزلية، أو للري أو للاستخدام الصناعي، استعراضاً كلامياً، يعلم الجميع أنه لن يؤد إلى اي نتيجة، في بلد تكثر فيه الخطط وينضب التنفيذ.

والجانب الكمي للمياه ليس الأساس في المشكلة حسب قديح. فالأهم هو جودة المياه ونوعيتها، في ظل مشكلة تلوث متفاقمة تخرج كميات من مواردنا من معادلة استخدامها أو إمكان استخدامها.

سدود المصالح الخاصة
إذا عدنا إلى الليطاني نجد مثالاً حياً عما يتحدث عنه قديح، حول كلفة عالية يفرضها استخدام هذه المياه، وتترافق بمخاطر على الصحة والاقتصاد.
وحسب دراسة أجرتها المصلحة الوطنية لنهر الليطاني مؤخراً، فإن التلوث الذي تعانية الموارد المائية في لبنان تجعل كميات كبيرة منها غير قابلة للاستخدام. وتشير التقديرات الى إرتفاع الحاجات المائية في مختلف القطاعات من مليار و702 مليون متر مكعب سنة 2020 إلى 3 مليار و150 مليون متر مكعب سنة 2050.

هذا فيما تظهر تحاليل المعطيات المناخية تراجعاً في الهطولات وتدن متواصل في حجم المياه المتاحة. ويفاقم المخاطر غياب التوافق على استراتيجية موحدة حول حفظ الموارد المتوفرة وحمايتها. وهذا بين من يبدون حرصاً على البيئة مواز لتوفير مصادر المياه، وبين خطط وسياسات الدولة المعتمدة منذ 30 سنة، والتي تتوجه لإنشاء السدود من دون أن ترتكز، وفقاً لقديح، على دراسات علمية ورؤية مستدامة لإدارة الموارد ولا على توفير حاجات البلد من المياه.

يأسف قديح لكون مصالح الفئات في السلطة أعلى من المصلحة الوطنية. ولكنه يؤكد بأننا لا يمكن أن نتأخر في إيجاد الحلول. وبرأيه أن المسألة كلها تتلخص في تحديد أية سياسات علينا اعتمادها، وأي خطط استراتيجية تؤمن استثمار الثروة المائية بشكل مستدام.

وتبقى المعضلة برأيه "في الطبقة الحاكمة. فبعد 30 سنة من تسلمها السلطة لا يمكن توقع قدرتها على إصلاح أي شيء في هذا البلد. وبالتالي هناك حاجة طبيعية لتغيير هذه السلطة، لنضع سياسات تعيد تصويب الاستراتيجيات في إدارة الموارد جميعها، حتى لا يضاف إلى قلق اللبنانيين المعيشي والصحي والحياتي، قلق آخر من العطش الذي ينتظرهم في السنوات المقبلة".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024