كيف ينظر فلسطينيو لبنان إلى الانتفاضة؟

أحمد الحاج علي

الأحد 2019/10/20

كمن يتابعون انتفاضة من انتفاضاتهم في وطنهم المحتل، تسمّر الفلسطينيون في لبنان أمام الشاشات، يتابعون انتفاضة الشعب اللبناني. حاولوا بصعوبة حنق غضبهم وضبط التعبير عن تضامنهم، حماية لهذه الانتفاضة/الثورة "حتى لا يُقال أن عناصر أجنبية مندسة تحرّك الجماهير". لم يقدروا على ذلك تماماً. خرجوا ليلاً في مخيماتهم يحملون الأعلام اللبنانية ويهتفون "من عين الحلوة تحية.. للثورة اللبنانية". وضعوا صوراً خاصة بانتفاضة لبنان على ملفاتهم الشخصية (profile) في مواقع التواصل الاجتماعي. عبّروا بالكلمات والفيديوهات والصور عن هذا الحب. استعادوا شعر درويش "بيروت خيمتنا".

الحب القاهر
اكتشفوا للمرة الثانية، خلال أسبوع، مدى عمق حبهم للبنان. كانت المرة الأولى حين خرجوا من مخيماتهم وتجمعاتهم يساهمون في إطفاء حرائق التهمت أخضر بلد يعيشون فيه منذ أكثر من سبعين عاماً. قهرهم هذا الحب، ظنوه لوهلة من طرف واحد. الانتفاضة الحالية أخبرتهم أنه حبّ متصل ومتواصل بالاتجاهين. هتفت الحشود في رياض الصلح وساحة الشهداء لفلسطين. اعتذرت لافتات عن إجراءات وزير العمل. أصوات الأغاني الفلسطينية التي صدحت في التظاهرات اللبنانية كانت حباً يصل إلى المخيمات فيسقي حباً آخر. سقط جدار عين الحلوة في تلك اللحظات. وصدئت الأسلاك الشائكة حول المية ومية. ورحلت مع كل ذلك قوانين الفصل التمييزية. هذا على الأقل ما يوحي به حديث الفلسطينيين.  

كتب الفلسطيني نصري حجاج "عندما يُعرّف اللاجيء الفلسطيني في لبنان عن نفسه يقول: أنا فلسطيني من لبنان. على عكس بقية اللاجئين الفلسطينيين في سوريا أو الأردن أو العراق أو مصر فهم يقولون مثلاً فلسطيني سوري أو أردني أو عراقي أو مصري. لبنان لم يُعط الفلسطيني اللاجئ هذه الفرصة. اليوم أنا أعلن بصوت عالٍ: أنا فلسطيني لبناني! أنا أنتمي لهذا الشارع اللبناني المنتفض ضد السلطة السرطانية الطائفية المستغلة الفاسدة. نعم أنا فلسطيني لبناني اليوم". هدأت فوضى القلب، حين أزاح الحب مرارة مزمنة.

تشابه الفساد
شعر الفلسطينيون أنها ثورتهم هم لأكثر من سبب. البنى السياسية الفاسدة متشابهة عند القيادتين الفلسطينية واللبنانية. وكلاهما يحاول تغطية الفساد بعَلَم، وشعارات و"الويل لمن يخون"! لا تجديد في هذه البنى. الزبائنية حاكمة، وغياب البرنامج والآليات والرؤى والخطط، و"يحيا الزعيم". نكاد نتحدّث عن واقع واحد. اكتشف الفلسطينيون معاناة لبنانيين ظن سكان المخيمات أنها حكراً عليهم. هذه المرة سبقت ثورة اللبنانيين نظيرتها الفلسطينية، كانوا أقوى من الانقسام. حين هتفت طرابلس لصور، صاح بعض الفلسطينيين، إذا كان الانقسام الطائفي يجري تجاوزه بلحظة وجدانية فلم لا ننتصر نحن كذلك على انقسام سياسي، قد يكون أسهل، لأنه عقلاني بالنهاية، أو هكذا يجب أن يكون.

انطلقت أغنية "كلنا للوطن" في شوارع القدس العتيقة، فترددت صداها في مخيمي نهر البارد والبداوي. وردّت ساحات بيروت "فلسطين نحنا معاك حتى الموت"، فهيّجت قلوب الفلسطينيين وهم يتناقلون تلك التسجيلات. إذا كانت فلسطين هي هدف اللقاء وغايته قبل عقود بين فلسطينيين ولبنانيين، فإن شباب لبنان وشاباته يصنعون اليوم أهدافاً جديدة، منها القضايا المعيشية وبناء السلطة على أسس من العدالة، تغيرت الأولويات خلال عقود. هذه الأهداف والأولويات الجديدة بريئة من الأيديولوجيا، لذلك فهي نقطة تقاطع بين كل أصحاب الأيديولوجيات من الفلسطينيين.

الذاكرة والحنين
جميع المدن اللبنانية تقريباً حاضرة في التاريخ الفلسطيني. فحين تتظاهر صور ستأتي إلى ذاكرة الفلسطينيين أغنية "وقامت قيامة صور". وحين تغضب بيروت فإن عشرات الأغاني والقصائد ستخطر في أذهانهم، ومنها "اشهد يا عالم علينا وع بيروت". وإذا ذُكرت زوق مكايل فالذاكرة تذهب بعيداً إلى عام 1937 يوم مكث قائد الحركة الوطنية الحاج أمين الحسيني هناك، فارّاً من الإنكليز، تظاهر يومها لبنان كله ليبقى المفتي. لبنان الذي أسس لجنة عام 1947 وجمع المال لأهل فلسطين لشراء السلاح. عاتب وقتها القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني الجامعة العربية بالقول "إن هذه الأسلحة اشتراها أهل لبنان تلبية لطلبنا، فلماذا أخذتموها ومنعتم تسليمنا إياها؟".

لبنان الذي يعيد الفلسطينيون تجديد حبهم له اليوم، هو لبنان الصحافة الفلسطينية، والتعليم الفلسطيني، والموسيقى الفلسطينية. لبنان الذي قرأوا مبكراً أنه نقيض (إسرائيل) بتنوّعه، كما رددوا طويلاً. هو الذي يصعب أحياناً التمييز بين جنسية بعض متحمسيه للقضية الفلسطينية، أهم فلسطينيون أم لبنانيون. لن يصدّق كثير من الفلسطينيين أن إلياس خوري، ابن الأشرفية، هو لبناني وليس فلسطينياً، وأن شفيق الحوت جده مفتي لبنان. وربما بعض الفلسطينيين سيبقى يعتقد أن هاني فحص شيخ أتى من قرية جليلية.

تجديد الأمل
كيف لا يخطئون وقد أخطأ قبلهم الاتحاد السوفياتي بجلالة مخابراته حين وصف الجبهة الشعبية مبكراً بأنها "مجموعة متطرفة يقودها السياسي اللبناني الرجعي جورج حبش، وتتحمل مسؤولية خطف الطائرات". تداخلت الأحزاب اللبنانية والفلسطينية حتى وصل بحركة لبنان الاشتراكي أن تعير 40 عنصراً للجبهة الديمقراطية في الأردن، لتعينها على الانطلاقة. كيف تفصل بين تاريخين، يريدان في هذه اللحظة أن يتوحدا في مستقبل؟

يعرف الفلسطينيون أن أركان السلطة في لبنان، التي بُنيت بعد الطائف، استثمرت بالخوف في لبنان، فلم تسع إلى ترتيب العلاقة اللبنانية الفلسطينية، لتحقيق أهداف سلطوية وتعزيز قبضتها على مؤسسات الدولة. ويعتقد فلسطينيو لبنان أن أي تغيير جدي في جوهر هذه السلطة سيكون بداية الحلول للمشاكل الفلسطينية. وفي الوقت نفسه هناك من الفلسطينيين في لبنان من يدعو إلى انتفاضة مشابهة في المخيمات الفلسطينية على قيادات ساهمت في تهميش شرائح اجتماعية واسعة، ولم تسع إلى تجديد خطابها الهرم، واستمرّت بتبني شعارات قديمة لم تعد تصلح في عهد تغيّر الأولويات لدى الفلسطينيين. فهل يقوم الفلسطينيون في لبنان بانتفاضة ضد قياداتهم؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024