طرابلس قبل الأضحى: العيد المذبوح على مائدة الفقراء

جنى الدهيبي

السبت 2020/07/25

كالتائهين، تمشي أم حسن في السوق العريض، في طرابلس شمالًا. تضع الكمامة وتمسح آثار الرطوبة من جبينها المتعرّق وشعرها الشائب. تلتفت يمينًا ويساراً على واجهات المحال، تدخل واحدًا وتخرج من آخر فارغة اليدين، قبل أن تمضي يائسةً: "كنت أفتش عن حذاءٍ لحفيدتي لأقدمه لها في العيد، ولا أستطيع دفع ثمنه أكثر من 30 ألف ليرة، وهو مبلغ كان يكفيني في السابق لشراء حذاء لها من هذا السوق. لكنني أمشي مذهولة بالأسعار، لدرجة كدتُ أبكي من عجزي، ولم أجد حذاءً لها أقل من 50 ألف ليرة"، قالت لـ"المدن"، وسألت مستنكرةً: "ماذا نفعل نحن الفقراء الذين صارت قيمة مداخلينا الزهيدة لا تساوي شيئًا؟ هل أصبح قدر أولادنا وأحفادنا أن نعجز عن إدخال البهجة إلى قلوبهم بالأعياد؟".

جاءت أم حسن من جبل محسن إلى أسواق طرابلس، بنيّة التبضّع بأغراض وحاجيات العيد، التي تعودت على شرائها في السنوات السابقة. لكنها عجزت عن فعل ذلك. أضافت: "نحن ضحايا هذه السلطة والتجار الجشعين الذين لا يرحمونا، فصار أقصى طموحنا أن نؤمن قوتنا اليومي، بينما هناك مواد غذائية نعجز عن شرائها، وأصبحنا نشتهي القليل من اللحوم، ويبدو أنّ هذا العيد سيمضي حتى من دون حصولنا على الأضاحي".

ما قبل العيد
أسبوع واحدٌ يفصل طرابلس ولبنان عمومًا عن موعد عيد الأضحى، ليحلّ بظروفٍ استثنائية في غاية الصعوبة، صحيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا. وبعد أن تفشى وباء "كورونا" بسرعة قياسية على مختلف الأراضي اللبناني، يبدو أنّ القلق الاقتصادي شمالًا يتفوق على القلق الصحي، رغم أنّ خطر "كورونا" اقتحم الشمال من بوابة "القلمون". وكان محافظ الشمال رمزي نهرا اتخذ قرارًا بعزل البلدة عن محيطها، بعد أن كشفت فحوص الـPCR عن أكثر من 12 إصابة حتى الآن.

..حتّى الآن، وكما معظم المناطق اللبنانية، يبدو أنّ أهالي الشمال لم يتحسسوا بعد مداهمة خطر "كورونا" عليهم. جولة داخل طرابلس وأسواقها، تكشف أن الشريحة الأوسع من السكان لا يلتزمون بوضع الكمامات، أو بالتباعد الجسدي فيما بينهم. عند ساحة التلّ، نسأل أحد المارة عن سبب عدم ارتدائه الكمامة، فيرد ساخرًا: "كرمال تجي كورونا تاخدنا من عيشة الذل بالبلد لنرتاح".

زحمة السيارات واكتظاظ أسواق طرابلس وشوارعها قبل أيامٍ من عيد الأضحى، لا يعكس بحبوحةً اقتصادية على الإطلاق. ورغم محاولات التسوّق، لم يتعود حتى الآن أهالي المدينة على النمط الجديد لغلاء الأسعار داخل أسواق الغذاء والألبسة، بما يتجاوز قدرتهم الشرائية بأشواط. فيذهبون للتسوق ثم يعود معظمهم بأيادٍ فارغة، كما أم حسن. يقول المواطن محمد في ساحة النجمة: "كنت أحاول شراء ثياب العيد لأولادي، وعندما أستغرب غلاء الأسعار، يُكسّرها أصحاب المحلات على الدولار، حتى أقتنع أنّها ما زالت رخيصة، بينما أنا لا أملك الدولار ولا الليرات من نصف راتب أتقاضاه شهريًا بقيمة 500 ألف ليرة".

عند مدخل السوق العريض، يقف صاحب محل "كروم" لبيع الألبسة الرجالية أمام بابه، وقال لـ"المدن": "لم تمر عليّ أزمة بعملي في هذا القطاع كهذه الأزمة منذ أن أسست المحل في العام 1976. ولو لم يكن إيجاره قديماً من الأوقاف، كنت اضطررت لإغلاقه". والأزمة الحقيقية، هي "في عجزنا الكامل عن شراء البضائع، بسبب عدم قدرتنا الحصول على الدولارات إلا من السوق السوداء، ما يدفعنا أن نكتفي ببضاعتنا القديمة التي نبيعها بخسارة كبيرة، بينما لا نجد من يعوض لنا. والمصارف استولت على أموالنا، وهناك 4 محلات في السوق العريض اضطر أصحابها مؤخرًا إلى إغلاق أبوابها بالكامل".

وعن إقبال الناس على الشراء قبل الأعياد، أجاب كروم: "معظم الناس تدخل وتخرج من دون شراء شيء، لأن أولويتنا جميعًا صارت تقتصر على الطعام والطبابة، والحركة في الأسواق حاليًا هي من دون بركة".

يشير كروم أنّه كان في السنوات السابقة يضحي بخروف في عيد الأضحى، لتوزيعه على الفقراء والمحتاجين. لكن هذا العام، "لست قادرًا على تقديم الأضاحي، وسعر الخروف يتجاوز 200 دولار أميركي وفق سعر صرف السوق السوادء". والحقيقة، وفقه، أنّ "السلطة حولتنا هذا العام إلى أضاحي وخرفان بأرخص ثمن".

خلافًا للأعوام السابقة في طرابلس، تخلو باحات متاجر اللحوم من الخرفان التي كانت تكتظ بالمئات عشية العيد، ما يعني أن نسبة الأضاحي هذا العام ستكون منخفضة بنسبة تتجاوز 70 في المئة. وفي السياق، يشير مدير عام بيت الزكاة والخيرات، كرامي شلق، لـ"المدن"، أنّ الأضاحي هذا العام ستكون قليلة جدًا. وهناك قلق كبير من عدم تأمين الحصة المعتادة للفقراء والأيتام والمحتاجين. قال شلق: "منذ 38 عامًا نقدم سنوياً الأضاحي في بيت الزكاة بمساعدة المساهمين والأيادي البيضاء في الداخل والخارج، ونحن نكفل أكثر من 4 آلاف يتيم، ونقدم العون لآلاف الأسر المحتاجة. وفي عزّ الثمانينات، كنا نضحي بنحو 3 آلاف خروف، أما هذا العام، فلا يزال الرقم المرصود خجول جدًا، وقد نضطر إلى استقدام الجزء الأكبر من الأضاحي من استراليا، ونسعى إلى تكثيف الاجتماعات لإيجاد مخرج، لا سيما أن آلاف العائلات تنتظر منا حصتها من الأضاحي". والسبب الرئيسي لهذا التراجع، يعود وفق شلق إلى عجز المساهمين في الداخل عن تأمين كلفة الخرفان التي صارت باهظة الثمن، وكل خروف لا يقل ثمنه عن مليون و600 ألف ليرة، وشريحة من المساهمين في الخارج تعجز عن تأمين التحويلات بالدولار الأميركي.

إذن، هذا العيد الذي كان واحدًا من المناسبات الرئيسة للتعبير عن التكافل الاجتماعي في طرابلس ومختلف مناطق الشمال، يبدو أنّه سيمر بغصةٍ كبير على الفقراء، الذين كانوا ينتظرون سنويًا، مناسبة طهي "لحمة العيد" لأولادهم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024