"مشّي تَ دلّيك" على المساحات العامة في صيدا

هدى حبيش

الإثنين 2015/06/15
شعرت أنّها في هاواي. استرخت على القماشة المعلّقة بين شجرتين، ووضعت السماعتين في أذنيها كما طلبت منها دعاء، وراحت تستمع إلى قصّة "النّهر نشّف عفراقنا". أخذت دعاء تهزّها حتى غلبها النعاس من دون أن تغفو، وتخيّلت ضفّة نهر الأوّلي التي تسمّى بمنطقة "الكينايات" التي كان يزورها من يشاء "من دون حسيب أو رقيب". هنا أطفال يلعبون بالطابة والحبل، وهناك عائلة يلعب أفرادها ورق الشدّة، وفي البعيد عاشقان يستمتعان بجمال المكان.. وبحبهما. وفجأة زال كل شيء مع وصول دعاء إلى مقطع سردت فيه كيف اشترى رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري الأرض في الثمانينات، باسم شركات عقاريّة، وأتاح المجال لأشخاص آخرين لاستثمار الضّفّة لفتح مقاه خاصّة، وبالتالي منع الناس من ارتياد المنطقة إلا عبر دفعهم لمقابل مالي.


هذه "الرواية" قدّمتها أمس مجموعة "دكتافون" لأهالي صيدا في حديقة "الكنايات البحريّة" في نشاط بعنوان "مشّي ت دلّيك" من دون اهتمامٍ يذكر من فعاليات المدينة. هكذا، حملت "دكتافون" صيدا إلى مطرح آخر، لا يشبهها، ولا مكان فيه للأطراف السياسية والدينية المهيمنة في المدينة، بل للموسيقى الهادئة. وفي هذه الحديقة وجد الأطفال لهم منفذاً إلى "بحر العيد"، حيث وضعت المجموعة "دويخة صيدا"، التي لم تسنح فرصة سابقة لأطفال المدينة للتعرّف عليها، بعد أن تقلّصت مساحة بحر العيد، ونشاطاته، وهو الذي كان اسمه مقترناً، لفترة طويلة، بالأعياد.

وفي ناحيةٍ أخرى جلست نادرة أرقه دان واستقبلت الزوارعلى بساطٍ وراحت تروي لهم ذكرياتها (دور تمثيلي) على "موقع تلّة النبي يحيى"، حيث كانت تسكن. كانت تنتظر زوارها كي تتسلّى بمراقبتهم والاستماع إلى قصصهم بعد قطف الزّيتون مع والدها كل صباح. لكن التلّة أصبحت اليوم مهجورة ولا يرتادها أحد. وقليلون من يعرفون بوجود مقامٍ فيها. وهذا ما يؤكده الشبان الصيداويون الذي عملوا على تنفيذ عمل "دكتافون"، اذ قالوا بمعظمهم إنهم تعرّفوا إلى أشياء لم يكونوا يعرفونها من قبل عن مدينتهم التي ولدوا وعاشوا فيها. فمحمّد ياسين، الذي يدرس الهندسة المدنيّة في "جامعة بيروت العربية"، يقول انه استفاد "كثيراً من العمل على الخرائط، كما لو أنه تدريب مبكر على العمل في مجال اختصاصي".

انقسم العمل على هذا المشروع إلى ثلاث مراحل أساسيّة تعاونت فيها كل من المهندسة المعمارية والباحثة المدينية عبير سقسوق والفنانة تانيا الخوري مع 7 شبان من المدينة. أما المرحلة الأولى فكانت البحث عن شبان من المدينة والتعرف عليهم وتدريبهم على طبيعة العمل الذي سيقومون به، مثل العروض الحيّة والعروض المرتكزة إلى المكان. وفي مرحلة لاحقة تعلّم الشبان كيفيّة البحث عن المعلومات الموثّقة بالصور والخرائط والنصوص. أما المرحلة الثالثة فكانت كتابة المعلومات بطريقة تقرّبها من الجمهور، أي ان تكون سلسة ومفهومة، وتحويلها إلى عرض حي وتفاعلي. وتقول الخوري إن الهدف من هذا المشروع هو "إنتاج المعرفة حول الأسباب التي أدت إلى تضاؤل المساحات العامّة، وإلى تغيّر علاقة المدن الشّرق أوسطيّة مع البحر، وإلى اجبارنا على دفع بدل مادي من أجل ارتياد البحر والشواطئ".

وقد جذب هذا العرض أشخاصاً كثيرين من خارج صيدا لزيارتها والتعرّف عليها، وهو أمر تفتقده المدينة منذ زمنٍ، خصوصاً بعد الأحداث الأمنية التي شهدتها في السنوات الأخيرة. أما أهم ما في هذا المشروع، وفق سقسوق، "فتحه النقاش حول المساحات العامّة وآلية تقلّصها، خصوصاً أن صيدا اليوم تمر بمرحلة شبيهة بالمرحلة التي مرّت بها بيروت في التسعينات، في منطقتي وسط بيروت وخليج السّان جورج". ويبدو أن المصير نفسه يهدّد مناطق عديدة في صيدا، أهمها "بحر اسكندر" الذي يجري التخطيط لأن يصبح شبيهاً بـ"زيتونة باي" عبر إستقباله لسفينتين كبيرتين و10 يخوت. بالإضافة إلى "البحر المالح"، الذي يشهد الآن أكبر عملية طمر، في لبنان في الآونة الآخيرة، نتيجة إزالة مكب النفايات، والذي قيل إن حديقة عامّة ستنشأ في مكانه، لكن ذلك يبدو غير مؤكد حتى الآن.

وإذا كان المخططون يتحجّجون بأن هذه المشاريع من شأنها إنعاش المدينة اقتصادياً وتحسين صورتها، فوسط بيروت دليل على فشل هكذا مشاريع. زد إلى ذلك، أن هذه الأراضي هي ملكٌ للشعب، أما المشاريع التي ستقام عليها فستحرم الناس من أبسط حقوقهم، أي التنزه والترفيه من دون الإضطرار لدفع مبالغ باهظة. هكذا، يبدو كأن بلدية صيدا، مثلاً، في عملها على تأمين نظافة وأمن "المسبح الشعبي"، تحاول إقناع سكانه بأنه المسبح الوحيد المتاح. بينما تترك النواحي الأخرى من الشاطئ مهملة لإبعاد السكان عنها وقطع علاقتهم بها، فتتحوّل تدريجاً إلى مشاريع خاصة ضخمة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024