"موقع الذاكرة الإبداعية".. الفن يوثق المجزرة

حسن الساحلي

الجمعة 2015/12/18
"الذاكرة التاريخية هي مفهوم سياسي واجتماعي حديث الى حد كبير، يوصف بالجهد الواعي لجماعات بشرية تسعى للتعاطي مع ماضيها وتقييمه واعطاء جوانب منه الحضور والأهمية اللازمين لتغييب ما تعتبره تبعات سيئة لهذا الماضي في الحاضر". بهذا التعريف بدأ ياسين سويحة كلمته التي ألقاها عبر السكايب من تركيا، ضمن فعاليات "لقاء حول الذاكرة الإبداعية للثورة السورية" الذي عقد في أوتيل كراون بلازا – الحمرا. ومن أجل تقديم صورة أفضل عن الخطوط العامة التي يجب فهمها عند الحديث عن "ذاكرة ابداعية سورية"، هي ليست سوى جزء صغير من ذاكرة تاريخية أكبر تطمح لتصبح "ذاكرة من أجل المستقبل"، يكمل سويحة بأن "البعد الجوهري لاستعادة الذاكرة التاريخية اعتبارها فعل مقاومة أمام السرديات الرسمية الموضوعة من الجماعات المُهيمنة في المجتمعات، وفي الوقت نفسه هو الإنحياز للجماعات المتضررة من الأحداث التي تسببت بها هذه الجماعات المُهيمنة". وتتضمن هذه الإستعادة عدداً من العناصر لوصف "الطريقة التي حافظت بها الجماعات المقموعة على حياتها، وكيف استطاعت بناء مجالها الحيوي، ضمن ظروف القمع على المستوى السياسي والاجتماعي والإقتصادي"، بحسب سويحة.


وفي هذا الاطار، يكمن مجال عمل موقع "الذاكرة الإبداعية"، الذي أطلقته وتشرف عليه سنا يازجي، منذ العام 2013، ويحاول جمع وأرشفة التعبيرات الإبداعية الناتجة عن الثورة السورية وما تتضمنه من طرق لتعاطي السوريين مع الحرب والموت اليومي في بلدهم، بالتعاون مع الدكتور حسان عباس الذي أدار الندوة التي ضمت بالإضافة إلى سويحة ويازجي، الفنان محمد عمران. وكان عباس قد ساهم في وضع تصنيفات للتعبيرات الفنية في الموقع وصلت إلى 22 صنفاً ابداعياً، منها تعبيرات نخبوية وأخرى شعبية تساعد في الأرشفة في الموقع الذي يعمل ضمن "منهجية لتقسيم الزمن السوري منذ العام 2011 الى أحداث أساسية، وتوثيق التعبيرات الفنية حول كل حدث ضمن التصنيفات الـ22 التي وضعها عباس، وتتضمن الصورة والفيديو والكاريكاتور والمسرح واللافتة"، بحسب يازجي التي تضيف أن "الموقع أضاف مؤخراً قسماً خاصاً بـ"قصة مكان"، يؤرشف فيه التعبيرات الفنية بحسب الأمكنة ويسرد قصص القرى والمدن السورية منذ بداية الثورة الى اليوم".

وتحدث عمران عن بعض نماذج هذه التعبيرات، وعن ماهية التغيرات الطارئة على الفن التشكيلي السوري خلال الحرب، والذي عبّر عن أحداث وقصص تجري ضمنها. ويبدو أن الثيمة الاساسية هي الموت أو الجسد الميت، وهما القاسم المشترك الأساسي بين مختلف الأشكال الفنية الأخرى. وتتضمن هذه الأعمال تكريماً وتخليداً لمناطق منكوبة بفعل قصف النظام، مثل عمل يوسف عبدلكي "شهيد من درعا"، وشذا صفدي "كرم الزيتون"، التي رسمتها بعد المجزرة المروعة التي حصلت في منطقة كرم الزيتون، بالإضافة إلى أعمال عاصم باشا "الطريق الى باب عمرو". وهذا ما يحيل أولاً إلى مقارنة هذا التخليد بمجرزة أخرى حصلت في العام 1982 في حماه، ووجهت بالصمت، فلم يتحدث عنها سوى بعض الفنانين، وثانياً إلى مقارنة مجزرة حماه بمجزرة أخرى حصلت في الفترة نفسها، أي مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت، التي وُثقت بعدد كبير من الأعمال التي حاولت تخليدها.

ومن مميزات الأعمال التشكيلية المتفاعلة مع الحرب، كان انتاج الصورة الواقعية التي تحاول تكريم أشخاص معينين، كحمزة بكور، الذي قتل بعد أن فقد فكه السفلي وانتشرت صوره على وسائل التواصل الاجتماعي. كما تحدث عمران عن صورة الجسد المشظى في الفن التشكيلي، التي كانت شبه غائبه قبل الثورة، أما اليوم فمعظم الفنانين يرسمون رؤوساً مقطوعة وأجساداً مقطعة. وهذا ما يتكرر مع ثيمة "الجسد الوحش"، وفق تسمية عمران، التي رسمت صور "الشبيحة" وأعمالاً أخرى تمثل بشار الأسد، بالإضافة إلى أعمال حول ثيمة الهجرة. وقد أوردت يازجي بعض النماذج لأعمال متفرقة منها مكتبة في داريا ضمت 11 ألف كتاب، جُمعت من الابنية المدمرة في المدينة، وأسماء طبخات في حمص خلال الحصار ومنها "ملوخية الحصار"، و"مناقيش الصمود عيار 1" وتعبيرات شعبية على جدران حي الوعر في حمص ومدينة سراقب وقصص بعض الفنانين الذين قُتلوا في مخيم اليرموك ومناطق أخرى من أجل ايصال "رسائلهم الفنية".

غير أن عمل الموقع يواجه بعض الإشكاليات، ومنها ما طرحه عباس حول الإنتقائية، فـ"الذاكرة أمر طبيعي لكن ميزتها الأساسية هي الحيادية. فالذاكرة لا تنتقي، بل التذكر هو الذي ينتقي". ويأخذنا حديث عباس الى اشكالية تهميش أعمال فنية لم توضع في الموقع، طالما أن عمله يقتصر على أرشفة الأعمال المُحمّلة في أمكنة افتراضية حصراً، في ظل صعوبة العمل الميداني في سوريا حالياً. هكذا، تمر الإنتقائية بعدد من المراحل. أولها انتقائية الشخص الذي حمّل العمل على الشبكة دون عمل آخر، وثانياً انتقائية الموثق في "موقع الذاكرة الإبداعية"، الذي ينتقي العمل تبعاً لمعايير، لا يبدو، كما يفهم من حديث يازجي، أنها أصبحت واضحة بعد.

ويحيل عمل الموقع إلى اشكالية أخرى ترتبط بالخط الفاصل بين الإبداعي وغير الإبداعي، والفرق بين الفن النخبوي والفن الشعبي. ويبدو أن تحديد ماهية الفنون الشعبية هنا، يأتي أولاً من خلال عيون فنانين نخبويين يحددون شرعية الفنون التي بإمكانها أن توضع في خانة الفنون الشعبية. وهذا ما يعزز، بالتالي، مشكلة الإنتقائية مرة أخرى. ومن الأمثلة الأكثر سطوعاً، في هذا السياق، تبدو مدينة كفرنبل السورية، التي تثير اهتمام "النخبة" بلافتاتها، وهي تتوافق مع خطاب فئات نخبوية، وبالتالي لا ينبغي وضعها تحت خانة الفنون الشعبية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024