هزيمة "الجيش الأبيض": ممرضو لبنان مُنَهكون مُعدَمون مهاجرون

جنى الدهيبي

الإثنين 2021/01/18

"أضطر أحيانًا للعمل 24 ساعة متواصلة، بسبب النقص الحاد في طاقمنا التمريضي. أشعر بإنهاكٍ كبيرٍ لدى تسليمي أكثر من 12 مريضاً في الوقت عينه، بينما راتبي البالغ نحو مليون ليرة، لا يكفيني لتأمين عيشةٍ كريمة".  

هذا ما يقوله لنا أحد الممرضين العاملين في مستشفى من المفترض أنها "مرموقة" شمالًا. وهو يتحفظ عن كشف هويته ومكان عمله، خوفًا من ملاحقةٍ إدارية قد تؤدي إلى خسارة وظيفته.    

ممرضة أخرى اسمها هبة (22 عامًا)، حصلت على إجازةٍ جامعية بالتمريض عام 2019، كما نجحت بامتحان الكولوكيوم الرسمي. وطوال عامٍ كامل، لم تترك باب مستشفى إلا وطرقته بحثًا عن وظيفة من دون جدوى، وغالبًا ما يكون الجواب "حطي cv ومنرجع نحكي بس حاليًا مش محتاجين".  

تروي هبة قصّتها لـ"المدن"، وهي تنتظر الحصول على فيزاتها للسفر، بعد أن تم قبول طلب عملها بأحد المستشفيات السعودية الكبيرة. تحزن هذه الشابة لفكرة أن بلدها لم يعطها فرصة لبناء خبرتها الأولية في مجال التمريض، بينما شرّعت مستشفى في الخارج الأبواب أمامها. قالت: "لم تكن الهجرة خياري، وإنما فُرضت عليّ كخيارٍ لا بديل عنه بعد أن فقدت أمل العمل في لبنان".  

تعود هبة لمرحلتها الجامعية، ذاكرةً أن دافع التخصص بمجال التمريض نبع من شغفها بالمهنة أولًا، ويقينها أنها ستجد عملًا ثانيًا، لأن الطلب عليه لا يتوقف، كما كانت تظن.  

أمّا رحلة بحثها عن عمل، فكانت محفوفة باليأس والخيبة، وصارت تفكر أنها لن تحظى بفرصةٍ أبدًا في ظل توالي الانهيار في البلاد، إلى أن قدمت عن طريق الصدفة أثناء مكوثها بالمنزل طلب العمل إلكترونيًا في مستشفى سعودي كان يطلب دفعة من الممرضين. تابعت: "حين جاءني الردّ بالقبول الأولي، شعرت بسعادة أعادت لي الحياة، وأنتظر لحظة سفري بفارغ الصبر، وسأسعى لبناء مستقبلي المهني في الخارج رغم كل المصاعب التي قد تواجهني، لأنها ستبقى أخفّ وطأة من البقاء في لبنان".  

أكثر الأسئلة التي كانت تستفز هبة طوال فترة بطالتها: "ممرضة وما عم تشتغلي؟" لافتةً أنه من غير الطبيعي في ظل انتشار الوباء أن يبقى ممرض لبناني بالمنزل. وهي كانت مستعدة أن تعمل في أقسام "كورونا" كمئات الخريجين الذين لم يحظوا بهذه الفرصة. وما ضاعف يأسها، هي الأجواء التي كان ينقلها لها زملاؤها الممرضين من داخل أروقة بعض المستشفيات، والظروف القاهرة التي يعملون بها، مع رمي مسؤوليات كبيرة على عاتقهم، من دون تقدير جهودهم، معنويًا وماديًا.  

هذا الواقع المأساوي، تؤكده نقيبة الممرضين والممرضات ميرنا ضومط، آسفةً لما وصل إليه القطاع التمريضي في لبنان، "في وقتٍ لا يجوز أن يكون هناك ممرض بلا عمل، أو يتقاضى نصف راتب، أو ينتظر فيزاته للهجرة".  

وتشير ضومط في حديث لـ"المدن" أن النقابة تطالب منذ عام بتخصيص حوافز مالية للممرضين، وأن ترفع من رواتبهم، بعد أن صارت لا تساوي شيئًا بفعل انهيار العملة الوطنية. وترمي ضومط اللوم على إدارات المستشفيات الخاصة، التي حققت أرباحًا كبيرًا على مدار عقود، وحتى بعد انتشار جائحة كورونا، من دون أن تلحظ بذلك مكافآتٍ مستحقة لجهود ممرضيها. قالت: "الممرضون هم من يواجهون كورونا بالخطّ الأمامي، ومع ذلك تعرضوا طوال العام لمختلف أشكال الاضطهاد، كالطرد التعسفي أو العمل بنصف/ ربع راتب، أو عدم قبول طلبات الخريجين الجدد".  

وتشير ضومط في حديثها، أنه حتى نهاية 2019، بلغ عدد الممرضين العاملين في لبنان نحو 9 آلاف، لكن أكثر من 40 بالمئة منهم صاروا بلا عمل، أو تقلصت أجورهم. كما جرى رسميًا تسجيل هجرة نحو 600 ممرض. وهناك المئات غيرهم يستعدون للهجرة أيضًا، خصوصًا أن في آخر دفعة من الممرضين (2020)، تخرج نحو 1200 ممرض نجحوا بامتحانات الكولوكيوم، أي أنهم من أصحاب الكفاءات، لكنهم لم يحصلوا على فرصة لمزاولة المهنة.  

وتلفت ضومط أن شكاوى الممرضين تصل بكثرة إلى النقابة، وتدور حول معاناتهم من ظروف العمل والنقص الكبير في أعدادهم وشح الرواتب، التي تبلغ في بعض المستشفيات 800 ألف ليرة شهريًا فقط. وتابعت: "عدد المرضى لكل ممرض أساسي جدًا لضمان جودة العمل، لأن الممرض المنهك سيتراجع أداؤه وتركيزه". وفي البروتوكول الصحي عالميًا، يمكن أن يعاين كل ممرض 4 مرضى، لكن في لبنان تصل بعض المستشفيات لتسليم الممرض أحيانًا 15 أو 20 مريضًا، وفق النقيبة.  

وحسب معلومات "المدن"، فإن انتهاكات كبيرة يتعرض لها الممرضون، لا سيما في بعض مستشفيات طرابلس وعكار، وكذلك في البقاع.  

وكررت ضومط المطالبة بفتح المستشفيات الخاصة أبواب التوظيف أمام الممرضين، باعتبارها تسيطر على القطاع الصحي في لبنان بنسبة تتجاوز 80 بالمئة، من دون أن تفرض وزارة الصحة ضوابط صارمة لتنظيم آلية عملهم، لكونها مؤسسات خاصة، رغم حالة الطوارئ الصحية التي نعيشها.  

وختمت ضوط بالإشارة أن أكثر من 1500 ممرضة وممرض أصيبوا بكورونا، وتوفي 4 ضحايا منهم. و"إذا لم تسارع السلطة لوضع خطة استباقية عبر استنفار الجيش الأبيض وتحسين ظروف عمله، مع احتمال أن تبقى كورونا طوال 2021، فيعني أننا ذاهبون إلى مصير أسود". 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024