طفرة "دكاكين" التعليم.. وكسر حلقة التزاوج البلدي في الشياح

محمد أبي سمرا

السبت 2020/11/07
ولد المدرّس أحمد كزما سنة 1935، إبنًا لعائلة شيعيّة من عائلات السكان "الأصليين" في الشياح عندما كانت بعدُ قرية ساحلية. وفي العام 2005 روى سيرته العائلية في إطار شهادة عن المجتمع الشيعي الريفي أو الزراعي، وزمنه البلدي البطيء، الاكتفائي الأليف، في قرى ساحل المتن الجنوبي، قبل تسارع ذلك الزمن إلى الاندثار أمام هجوم "عمران الهجرات الجماهيري" الفوضوي على تلك القرى، فصارت أحياء الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت.
لكن الراوي - بعدما أمضى أكثر من أربعة عقود من عمره مدرّساً ومدير مدرسة في الشياح والغبيري (1953 - 1994) - يبادر إلى تعريف نفسه شغوفًا بأنّه مزارع وابن مزارع وحفيد مزارع.

طفرة المهاجرين والتعليم
حين يستعيد الراوي مشاهد من طفولته في الشياح، تحضره صور حقول الخضر ومساكبها حول بيوت ريفية متباعدة، فيما الأهالي منشغلون بأعمالهم الزراعية وأبقارهم في الحقول وقرب البيوت. وها هو ذاك الطفل يمشي في درب زراعية ليصل من بيت أهله إلى بيت الشيخ جعفر الحركة، سليل عائلة من سكان الشياح "الأصليين". كان الشيخ يدرّس قراءة القرآن الكريم لحوالى عشرين ولدًا جالسين على مقاعد خشبية بدائية واطئة في غرفة من بيته. إحدى رجليه مبتورة الساق، فيمشي ويتحرك على رجله السليمة متكئًا على عصًا، غالبًا ما يضرب بها من يخطئ من الأولاد في قراءته آية من سور المصحف.

وفي أواسط الأربعينات انتقل الراوي من كتّاب الشيخ جعفر إلى مدرسة الشياح الرسمية المختلطة، قرب كنيسة مار مخايل، فتعلم فيها سنوات أربع على معلمين كان معظمهم من بيروت، وبينهم والد الشاعر الفرانكوفوني صلاح ستيتيه، فيما كان من سيصير قائد الجيش اللبناني في أواخر ثمانينات القرن العشرين، العماد ميشال عون، تلميذًا في المدرسة.

وجهاء وميسورون من عائلات كنج وعلامة وشاهين والخليل والحركة والحاج وسليم من سكان الشياح والغبيري "الأصليين" الشيعة، كانوا يعلِّمون بعض أبنائهم الذكور، ونادرًا البنات، في مدارس رهبانية وإرسالية في حارة حريك وفرن الشباك وبيروت، ومنها مدرسة الحكمة في الأشرفية، فيتابع بعضهم تعليمه العالي في كلية الحقوق بجامعة القديس يوسف (اليسوعية)، فيتخرجون منها ويعملون محامين غالبًا، وقلة قليلة فقط منهم دخلوا كلية الطب في تلك الجامعة. 

ولم تكن في قرى ساحل المتن الجنوبي كلها بعد في الأربعينات مدرسة لمرحلة التعليم المتوسط التي كانت تُسمى التكميلي، فبدأها الراوي وأنهى سنواتها الأربع في تكميلية حوض الولاية البيروتية الرسمية في البسطة التحتا، ونجح في نيل شهادة البروفيه. وبعدما أمضى سنتين دراستين من مرحلة التعليم الثانوي في الكلية العاملية برأس النبع، حصل على القسم الأول من شهادة البكالوريا. وفي العام 1953، أي في الثامنة عشرة من عمره، عيّن مدرسًا رسميًا في الهرمل، فدرّس سنتين اثنين هناك، وانتقل بعدهما للتدريس في مدرسة الغبيري الرسمية، الناشئة حديثًا في منزل مستأجر عتيق مهجور، تقليدي العمارة، في شارع صغير ضيق متفرع من الشارع الرئيسي في الغبيري، شارع الشهيد الاستقلالي عبد الكريم الخليل.

كانت تلك المدرسة ابتدائية وتتسع لـ150 تلميذاً من الذكور فقط. لكن بعد سنتين أو ثلاث على افتتاحها حُشر فيها حوالى 250 تلميذاً، قبل أن تشيد الإدارة الحكومية في مطالع الستينات مدرستين رسميتين جديدتين حديثتي البناء في الغبيري، تتسع كل منهما لـ400 طالب: إحداهما بطرف حي المصبغة، ومخصصة للبنات. والثانية للصبيان، وعلى مسافة مئة متر من الأولى، في نهاية شارع الكريم الخليل. وسرعان ما صارت المدرستان الابتدائيتان هاتان لتلامذة المرحلة المتوسطة أيضًا. وفيما لم تشهد مدرسة البنات إقبالًا كثيفًا يفيض عن سعتها من التلميذات، انحشر في مدرسة الصبيان حوالى 700 تلميذ، غالبيتهم الساحقة من أبناء العائلات الوافدة من الجنوب والبقاع للإقامة في الغبيري والشياح.

"دكاكين" التعليم المجاني
لكن كثافة موجات أولئك المهاجرين إلى قرى ساحل المتن الجنوبي كلها، وقلة عدد المدارس الرسمية أو الحكومية فيها، وضيقها عن استيعاب أبنائهم، كانت قد أدت في مطالع الخمسينات إلى بداية إنشاء مدارس للتعليم الخاص، الأهلي وشبه المجاني، فيما كانت تنشأ وتتكوكب في تلك القرى الأحياءُ الأولى للضاحية الجماهيرية في عقدي الخمسينات والستينات.

بدأت تظهر طلائع تلك المدارس الخاصة شبه المجانية للأهلين الذين كانوا يدفعون 3 أو 4 ليرات شهريًا على التلميذ الواحد من أولادهم فيها، ويتقاضى أصحابها مساعدات مالية وفيرة من وزارة التربية الوطنية. فسياسة الإهمال والترقيع العشوائية والتمييز الاجتماعي - الطائفي، السائدة في الإدارة الحكومية التربوية الناجمة عن تفاوت اجتماعي - ثقافي تاريخي، أدت إلى إيكال أو تلزيم شؤون تعليم أجيال من أبناء المهاجرين الشيعة في ضواحي بيروت، والفائضين بكثافة كبيرة عن استيعاب المدارس الرسمية، إلى ذاك النوع من المدارس. وهي سرعان ما سميّت "دكاكين" في القاموس اللبناني، للحط من شأنها واحتقارها، فيما راحت تحمل أسماء حديثة برّاقة: "النهضة العلمية" و"التربية الحديثة" و"الوفاء اللبنانية"، التي أستأجر أصحابها لإيواء تلامذتها الابتدائيين المختلطين ذكورًا وإناثًا، مبانيَ شيّدها تجار البناء الجاهز المستعجلون لتكون سكنية محدثة في حي الغندور شبه العشوائي، خلف معمل الغندور في الشياح. وهذا نظير "مدرسة الساحل" و"مدرسة العطاء التربوي" المماثلتين في شارعي عبد الكريم الخليل وأسعد الأسعد في الغبيري.

أنشأ هذه المدارس جنوبيون من عائلات حوماني وسبيتي وشمس الدين في جبل عامل، بعد توارثها تعليمًا دينيًا ذوى بين أبناء أجيالها الجديدة، أقله منذ الثلاثينات، عقب عزوفهم عن الانخراط في سلك ذلك التعليم ومشيخته، وإقبالهم على تعليم مدني في مدارس محدثة. لكن منشئي المدارس الأهلية المجانية كانوا من أصحاب خبرات لغوية وفقهية شيعية ورثوها من بيئتهم العاملية، فاستعادوها ومزجوها بمواد التعليم المدني مع رواية السيرة الحسينية الكربلائية في ساعات التعليم الديني بمدارسهم، التي كان يعلِّم فيها أبناؤهم وأقاربهم وسواهم موادَّ التدريس الأخرى، فيما كانوا يتابعون تعليمهم الجامعي. ووحده تدريس اللغة الفرنسية كانت تُستقدم له معلمات مسيحيات من فرن الشباك وعين الرمانة.

أما تلامذة تلك المدارس - إلى صدورهم عن بيئة المهاجرين من الجنوب أكثر من بعلبك، واكتظاظهم في غرف التدريس المقبضة، شأن سكنهم في أحياء الضاحية الجنوبية الوليدة، المتكوكبة والمتجانسة طائفيًا وطبقيًا وفي نمط حياتها - فغالبًا ما كانت تجمع بين بعضهم ومدرِّسي مدارسهم وأصحابها، وفي ما بينهم أيضًا، علاقات أهلية، بلدية وقرابية. لكن هذه العلاقات وذلك التجانس ما كانا يتداركان العنف الجسماني واللفظي والمعنوي، بل ربما يؤججانه، ويجعلانه لغة سائدة بين الأطفال الذكور في مدارسهم تلك، وفي شوارع أحيائهم. ونَدُر أن أفلح معظمهم، ليس في لفظ أكثر من بضع كلمات في اللغة الأجنبية ببغائيًا فحسب، بل في متابعة تعليمهم/هن المتوسط، بعد فوزهم/هن في شهادة السرتيفيكا. فالزواج السريع المبكر غالبًا ما كان في انتظار الفتيات ومن نصيبهن، فيما كانت تنتظرُ المهنُ والحرف المتواضعة الفتيانَ، بعد رسوب معظمهم في واحدة من السنوات الدراسية الأربع في المرحلة المتوسطة. فالمواد العلمية كلها في مرحلة التعليم هذه، تُدرّس باللغة الأجنبية التي يحملون عجزهم الفادح عن تهجّي كلماتها ولفظ حروفها إرثًا أو عاهة مدرسية ونفسية تنتصب جدارًا عاليًا، يحول دون ترفعهم من صف إلى آخر، فترميهم خارج المدارس والتعليم.

كان تلامذة/تلميذات المدارس الرسمية في الشياح والغبيري، أحسن حالًا من أقرانهم/هن في المدارس - "الدكاكين" الأهلية المجانية هذه. وزامنت طفرة التعليم والإقبال المحموم عليه صيرورة ساحل المتن الجنوبي أحياء الضاحية الجنوبية. فكلما كانت تفتح مدرسة رسمية أو خاصة مجانية أبوابها، منذ مطلع الخمسينات، كانت تغيب حقول الخضر ومساكبها، ويتكاثر تشييد بنايات السكن الجاهز في الشياح والغبيري.

أصل العائلة القوقازي
في العام 1956 سافر الراوي المدرس أحمد كزما مع والده إلى القدس. كانت غاية رحلتهما التعرف الى أقارب العائلة. وفي المدينة المقدسة نزلا في مأوى تديره الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية، فأرشدهما بعض كهنتها إلى أقاربهما، بناء على التطابق بين كنيتهما العائلية (كزما) وكنية العائلة الشركسية القوقازية الأصل (قوزما).

وكانت رحلتهما تلك تلبية لرغبة جد الراوي، قبيل وفاته. فمنذ أيام الطفولة كان الجد يروي لحفيده نقلًا عن والده، أن السهل الجنوبي من ساحل جبل لبنان، كان خاليًا من السكان تقريبًا، حينما وفد اليه شطر من عائلته، فنزل فيه أيام حكم ابراهيم باشا. ثم أخذ السهل يعمر وتدب الحياة بطيئًا بطيئًا في بعض نواحيه، مع نزول طلائع الوافدين إليه من مسيحيي جبل لبنان وشيعة جبل عامل بعدهم.

وكان الجد يخبر حفيده بأن العائلة تعود بأصلها إلى الشركس في القوقاز، موطنها، قبل نزوح شطر منها هاربًا إلى الديار الفلسطينية، إبان الحرب بين الروس والأتراك العثمانيين. ومن فلسطين نزح مجدّدًا شطر من العائلة الى الساحل اللبناني، فاستقر به المقام سنة 1820 في برج البراجنة، حيث ولد جد الراوي سنة 1860، فتزوج امرأة برجاوية من آل حرب، وفدت عائلتها من جبل عامل. ومن البرج انتقل الجد إلى الشياح فنزل فيها مع زوجته، وأنجبا ولدهما البكر سنة 1880.

أما في الرحلة إلى القدس سنة 1956، فالتقى حفيد الجد، وابنه البكر بفرع عائلتهما الفلسطيني، فإذا به مسيحي أرثوذوكسي، فيما فرعها اللبناني مسلم شيعي. أما رواية الجد نقلًا عن والده، فتفيد أن العائلة، في موطنها الأصلي القوقازي، كانت من الشركس السنّة.. والله أعلم.

التزاوج البلدي وكسر حلقته
أنجب الجد في الشياح ذكورًا سبعة، تزوجوا كلهم نساء من عائلات السكان "الأصليين" الشيعة في قرى ساحل المتن الجنوبي، وعملوا في أملاكهم الزراعية. والد الراوي تزوج سنة 1900 امرأة من عائلة فرحات المتوطنة في برج البراجنة وفي الشياح، فأنجب منها سبعة ذكور أيضًا. هؤلاء من الأجيال الوسيطة التي خلط نمط حياتها ما بين الحياة الريفية الزراعية والتعليم والوظيفة. ولم يعيش الإخوة السبعة في رخاء ويسر، بل في كفاية من دون ضيق وعوز ماديين. الراوي يعتبر أنه مزارع أكثر منه متعلمًا (نكوصًا إلى الزمن الزراعي؟)، وعمل موظفًا في سلك التعليم الرسمي. إخوته جميعًا حصّلوا تعليمًا تفاوتت مراحله بين واحدهم وآخر. أخوه الذي يكبره بسنتين اثنتين عمل مدرّس تربية رياضية. أخ آخر ترك التعليم بعد حيازته البكالوريا وعمل موظفًا في شركة أدوية، شأن أخ ثالث عمل في شركة استيراد وتصدير في مرفأ بيروت. واحد منهم فقط، وهو أصغرهم، تابع دراسته الجامعية وعمل أستاذًا جامعيًا في بريطانيا. أخ خامس توظف في سلك الجمارك، بعد حيازته شهادة البروفيه. أحوال هؤلاء الأخوة الاجتماعية والمادية لم تتبدل في قفزات سريعة، بل خطت خطىً بطيئة، من دون أن يصيروا في عداد الطبقة المتوسطة أو الميسورة في معايير الستينات والسبعينات اللبنانية.

وإذا كان الراوي قد تزوج امرأة من عائلة الخليل من أهالي الشياح "الأصليين"، قبل انكسار حلقة التزاوج العائلي والبلدي المغلقة على السكان "الأصليين" الشيعة في ساحل المتن الجنوبي، فإنه من وجه آخر سار خطوات أولى على طريق التمهيد للخروج من هذه الحلقة. حصل الخروج في أسلوب التعارف الذي جمعه بزوجته التي التقى بها لقاءً مهنيًا في مدرسة رسمية كانا يدرّسان فيها معًا.

أولاده هم الذين كسروا فعلًا تلك الحلقة المغلقة للزواج. أحدهم تزوج زميلته في العمل، وهي مولودة في بيروت من أبٍ فلسطيني وأم مصرية. الآخر تزوج فتاة شيشانية كانا يدرسان معًا في غروزني. والثالث تزوج فتاة جنوبية تعرف اليها أثناء دراستهما في الجامعة الأميركية في بيروت.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024