"قهوة أبو عزيز" الحنين الأول في زحلة

لوسي بارسخيان

الثلاثاء 2018/07/10

في زحمة المقاهي والمطاعم والملاهي الليلية "الحديثة" التي تغزو زحلة، التي يبدو أنها في سباق لاستقطاب الحيوية التي افتقدتها المدينة من خلال جذب شبابها تحديداً، ثمة "قهوة" قديمة، لا تزال تشكل "الحنين الأول" لجيل ستينات القرن الماضي، يلتقون فيها على "ذكريات" أيام العز، عندما كانت زحلة مدينة تضج بمحيطها، والزبون فيها "مكرماً" بفنجان قهوة أو "كأس ليموناضة أو جلاب طازج" يطلب من عند جان زخيا أو أبو عزيز.

الرجل الثمانيني عاصر جيل المحامين، المدعين العامين، أساتذة الجامعات والدكاترة الكبار، الذين تفرقت طرق الحياة كثيرين منهم، فرحل بعضهم عن هذه الدنيا، وقادت مشاغل الحياة غيرهم إلى مواقع أخرى، بعضها في البرلمان اللبناني، فيما لا يزال قليلون يواظبون على عاداتهم القديمة، ببدء أيامهم أو انهائها في قهوة زخيا، متعرفين إلى وجوه جديدة احتلت مقاعد جلسائهم، وصار لها عاداتها المختلفة.

على أحد هذه المقاعد يجلس المحامي جوزف صافي، وأحد من قليلين يواظبون على "تصفح" الجريدة الورقية في المقهى. فكان يناقش محتواها مع إيلي الفرزلي وقبله والده نجيب، نقولا فتوش وخليل الهراوي، نواف حيمور وغازي سيف الدين، وغيرهم من المحامين الذين كان لكل منهم زاويته المعتادة، قبل أن ينقطع وصلهم جميعاً مع القهوة.

أبو عزيز له تاريخ حافل، كما يقول صافي. كان "أحلى ناس" يجلسون في قهوته، يجذبهم إليها موقعها في وسط السوق، في "زاموق" بعيد عن ضجة السيارات، مع جلسة "مكنكنة".

في واجهة المقهى حالياً، أنواع من الخمور النادرة، التي قد لا تتوفر إلا عند مصنعيها. ويشرح جان زخيا لـ"المدن" أن بعضها اشتراه بتسع ليرات في سبعينيات القرن الماضي، عندما كان يخزن الخمور في مقهاه، ويبيع بعضها في سوق الجملة. اليوم صار سعر بعض هذه القوارير، لاسيما أنواع النبيذ منها يفوق المئة دولار، يقدر قيمتها بشكل خاص "الأجانب" الذين لا يزالون ينفقون على "الخمر الجيد"، فيما القدرة الشرائية للزبائن المحليين تدفعهم إلى تبضع المشروبات التجارية.

ينقطع الحديث مع جان زخيا مرات عدة، وهو يلبي طلبات الزبائن بنفسه، من دون أن ينتظر طلبهم. فلهؤلاء عادات بات متمرساً بها، بعدما "صار الشغل حالياً على الهدا"، كما يقول. فنجان قهوة من هنا، قنينة بيرة مع مكسرات توضع أمام الزبون، كأس ليموناضة، عدا عن الطلبات إلى المحال التجارية، التي تجدها في فترة بعد الظهر متنقلة على يد ابنته زهى، التي تستلم "الدوام" من والدها ليتمتع هو بساعات الراحة الضرورية في مثل سنه.


لكن هذا ليس دور قهوة زخيا فحسب، التي سماها أبو عزيز "شي نانو" منذ ثمانينيات القرن الماضي، نزولاً عند نصيحة أحد المحامين بتسجيل مؤسسته تجارياً.

فالمقهى الذي يحتل باباً واحداً في "زاموق" في وسط مدينة زحلة، كانت مقاعده تمتد في المساحات الفاصلة بين المحال، لاستقبال زبائن "الطبق" اليومي الذي يحضره بنفسه، ويتنوع بين فترة الصباح والظهر والمساء، حيث كان لـ"المطعم" حينها زبائن دائمين، بينهم 16 كهلاً، يحضرون لتناول ما يقدمه بليرة وربع، فيما كان بعضهم يدفع ليرتين لزيادة حصته في الطبق.

كان لدى أبو عزيز، كما يشرح، 28 "صدر حديد" تُستخدم لنقل الاطباق إلى المحال، وأحياناً في أوعية ساخنة للحفاظ على حرارة الطبق، خصوصاً عندما كان يبيع أنواع الغمة والكراعين والطحالات والصفيحة التي كانت تحضرها زوجته في المنزل ولها زبائنها الخاصين.

يفخر زخيا بأنه "الأشطر" بقلي البيض الذي يقدم كل منها بشكل دائري منفصل عن الأخرى. وكان هذا الأمر محط اعجاب الزبائن الاجانب خصوصاً، الذين كان يتناولونه مع فنجان حليب أو شاي.

في الأحداث اللبنانية، لاسيما خلال حصار زحلة، لعب المقهى دوراً في تموين الأهالي بأنواع المعلبات والمونة التي شكل محيط قهوته مركزاً أمناً لعرضها، فكان أكبر التجار يحضرونها لبيعها عنده. إلى أن "انقطعت" حصرية شي نانو، وصار في المدينة آخرون "تسلقوا" المهنة، وراحوا يقدمون الخدمات المشابهة، وأحياناً من دون رخص استثمار.

إلا أن المقهى بقي محط استقطاب، وصارت "القهوة" عمودها الفقري، تصل إلى المحال بـ15 قرشاً من دون سيجارة وربع ليرة مع سيجارة. وميزه في فترة من الفترات وجود "السيسي"، وهو شاب بسيط عمل في توزيع الطلبات على المحال التجارية، وكان يحددها وفقاً للحالة الاجتماعية لكل من أصحابها، فاستقطب بظُرفه زبائن خاصين، كانوا يحضرون سهراتهم حول "السيسي" ليتعدى "بقشيشه" أحياناً أرباح المقهى.

مع غياب حيوية "السيسي"، كان سوق زحلة قد بدأ يفقد حيويته، وغابت عنه تلك "الروح" التي خلقها كل من أصحاب المؤسسات بحضورهم الدائم فيها، ليصبح سوق زحلة أقرب إلى الأسواق الأخرى التي غزتها العولمة، بعدما ارتفع عددها ليفوق عدد الزبائن، فتراجع دور قهوة زخيا معها أيضاً.

إلا أن أبو عزيز لم يفقد تعلقه بالمقهى، بل تعاون مع ابنته زهى على الحلة العصرية التي زين بها الجدران القديمة، ليخلق روحية أخرى للمقهى، حافظت على طابعه القديم، إنما مع قدرة على استقطاب شباب من الجيل الجديد، بنوا صداقات جديدة مع زهى، التي تحدت التقاليد الاجتماعية في ادارة مقهى أكثر زبائنه من الرجال، حاملة إرث والدها في "اللسان الدافئ، والنظافة وتلبية رغبة الزبون حتى في الاستماع إلى مكنونات الصدر، مع الاصرار على الاكثار من الاستماع والاقلال بالكلام"، محافظين بذلك على "شي نانو" محطة مميزة في مدينة زحلة وسوقها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024