المغتربون المُحبطون السابقون الذين نجوا.. ليسوا دولاراً

نادر فوز

الأحد 2020/07/12
إلى مغتربينا، العيون شاخصة من جديد. بين أياديهم النجدة، ومعهم أمل مفقود هنا. هم فقدوا الأمل هنا أساساً، وغادروا بحثاً عنه خلف البحار. لبنان، متمثلاً بمنظومته السياسية والاقتصادية، معمل للإحباط واليأس. يحبط الناس، يرسلهم إلى الخارج رغماً عنهم، ثم يستنجد بهم لمدّه بأمل صنعوه بأيديهم خلف الحدود. والأمل هنا، مجرّد دولارات تحرّك السوق وتمنعه من الغرق. والدورة مستمرة، في التعويل على بشر هجّروا عن عائلاتهم. نطالبهم بالعودة من أجل مال ينفقوه، ولا نريد منهم شيئاً آخر. لا نريد حتى السماع إلى شكواهم وملاحظاتهم وآرائهم. تجاربهم لا تعنينا، نريد فقط ما في أيديهم من مال، من أمل مزيّف. نراهم صورة ظليّة على شكل دولار، حرف "إس" مشطوب. في لبنان، منظومة تصنع الإحباط، ترسل المحبطين إلى الخارج لتستنجد بهم لاحقاً، بعد علاجهم في دولهم، لتمويل عمليات التيئيس وصناعة الإحباط.

المحبَطون الناجون 
المغتربون، تضربهم موجات الشوق كل حين. المحبطون السابقون، وهم يخرجون من أزماتهم، يصبحون عرضة للانجرار إلى الخطيئة. يضعفون ويغشّون أمام سموم الحنين والحسرة وفعل التعاضد اللاإرادي. فلا مهرب من سمّ الحنين. شعروا أنهم هربوا من الجحيم، في حين أنهم نجوا. نجوا ولم يهربوا، تعاملوا وفق حكمة الطبيعة ومنطقها فقط لا غير. أمسكوا الحبل وأنقذوا أنفسهم كما يفعل أي مسجون في بئر. هم ناجون، وذلك لا يلغي كونهم محبَطين أيضاً. من لحق منهم المركب وغادر، خيراً فعل. والقادر على فعل المغادرة، سيفعل اليوم قبل الغد. سيغادر في الصباح، على ضوء. قبل المساء وعتمته، علّه أقلّه يبصر للملمة أشيائه وجمعها في شنطة الرحيل.

حنين الداخل
المحبطون الناجون يعيشون همومنا أكثر منا. يتابعون أخبارنا على رأس الساعة. سعر الدولار، أسعار السلع والمواد الغذائية، أرقام كورونا، أخبار التحرّكات والاحتجاجات. يشتمون السبب والمسبّبين، مثلنا. يستيقظون ليلاً وأخبارنا- كوابيسنا تنغص عليهم أحلامهم. وكل هذا يغني سموم حنينهم. هم لا يدرون فعلاً أننا هنا نعيش مثلهم في الحنين نفسه. محبطون، فقدنا أدنى مقوّمات الأمان على مختلف الأصعدة، وقعنا في الانهيار والإفلاس. انتفضنا، فشلنا، وأحبطنا مجدداً. جعنا، مرضنا، نعسنا، تعبنا، ويسوقنا الحنين إلى كل ما مضى أيضاً. بتنا نحنّ إلى البلد أيضاً، إلى مصنع الإحباط نفسه، كما كان قبل سنة أو اثنتين أو عشر سنوات. نحنّ إليه بكل ما كان فيه من إحباط ويأس. حتى ذلك الفشل نحنّ إليه، لا لشيء إلا لأننا بتنا معدمين بالكامل.

حنين زمني
حنين من غادرونا إلى مختلف الاتجاهات، مفهوم. يشعرون بارتباط وعلاقة بأرض، ببيت أو عائلة كبيرة وصغيرة. حنينهم أصله جغرافي، حنيننا زمني بحت. في البقعة نفسها، في المدينة نفسها، نشعر بالحنين. انتفاضتنا فُضّت. جلساتنا انكسرت. شوارعنا خوت، حاناتنا فرغت ومدينتنا غرقت بالعتمة. قبل يومين، قام عدد من الجيران بحمل سكّة مكسورة لمجاري المياه. وضعوا تحتها أحجار خفّان، وثبّتوها عليها خوفاً على السيارات وتضرّرها. عالجوا المشكلة بأيديهم، وهكذا هي الحال في كل شيء. نزرع لنأكل. دعوة سحرية تلك التي صدرت يوم 7-7-2020. تلخّص كل ما في مصنع الإحباط هذا من فشل وانحطاط وعدم.

الترويج للهجرة
في الساعات الماضية، صدرت تهمة معلّبة جديدة عنوانها "الترويج للهجرة". ساقها متواطئون مع السلطة، أزلامها، مستفيدون منها، أو مجرّد مطبّلين لها. منهم من يعيش في الخارج حتى. ومن بينهم أيضاً من يحمل جنسية أخرى، قادر على النجاة في أي لحظة. منهم حتى القادر على تمليس شعره قبل الإطلالات التلفزيونية. لكن تسول لهم نفسهم انتقاد هجرة اللبنانيين والحديث عنها. "الترويج للهجرة"، نموذج جديد من تهمة "وهن نفسية الأمة" ومتدرجاتها. اتهام، بمستوى اتهامات الترويج لإسرائيل أو الفتنة والمخدرات والاتجار بالبشر (الدعارة). في هذا الترويج حثّ على اليأس والإحباط وتفريغ البلد والمسّ بصورته وسمعته. في حين أنّ لا قدرة على التقاط صورة لبلد غارق في العتمة. أما سمعته فمن سمعة ليرته وأحوال ناسه والمحبطين فيه.

في مصنع الإحباط واليأس، سلطة صنعت من يأسنا وإحباطنا مؤامرة للدفاع عن نفسها. تقول إنه ممنوع "الترويج" للإحباط واليأس. حتى هذا حكر عليها. وفي هذا المصنع أيضاً، سلطة تسرق هجرة المحبطين ويأسهم السابق. تسرق تعبهم وحنينهم، توضّبه وتضعه في علبة تسمّيها انتشاراً. لا لشيء إلا لأنها ترى المغتربين حرف "إس" مشطوب.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024