الخسائر النفسية للحرب السورية.. يدفعها اللاجئون بمفردهم

منى حمدان

الأحد 2018/12/02
الاستيقاظ. هذا هو الجزء الأصعب في يوميات سارة. أن تبدأ نهاراً جديداً. أن تضطر إلى مغادرة السرير. أن تواجه العالم الخارجي، ما لا طاقة لها مطلقاً على فعله.

"فقدت الحافز للحياة نفسها. لم أعد أعرف ما الجدوى من الاستمرار". هذا جزء من الأفكار التي تحتل رأس سارة خلال يومها. رأسها الذي تقول إنه لا يتوقف، حتى أنها أحياناً تشك في أنه يعمل أثناء نومها أيضاً. وإلا لماذا تستيقظ يومياً وهي تحمل كل هذا الشعور بالتعب وانعدام الطاقة؟

أثر الحرب النفسي
سارة، هي فتاة في أوائل العشرينات من عمرها. وهي واحدة من الذين هربوا من الحرب السورية، التي لم تهدأ قسوتها منذ أكثر من سبع سنين. وقد حاولت، كغيرها الكثير من السوريين والفلسطينيين السوريين، إيجاد ملاذ آمن لها في بيروت. هي تعرف أن ما تعاني منه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بصحتها النفسية. تقول: "لست غبية. قرأت كثيراً عن ما يحدث معي، وتمكنت من تحديد أن قلقي الدائم، أفكاري التي لا تتوقف، فقدان الرغبة في ممارسة الحياة وتفاصيلها.. كلها أشياء مرتبطة بالاكتئاب واضطراب القلق المزمن".

ضحكت كثيراً حين سألتها عن المساعدة، أو العلاج. "هل تعرفين كم يبلغ راتبي؟ هل تعرفين كم أدفع إيجاراً للغرفة التي أسكنها في منزل مشترك؟ هل تعرفين كلفة العلاج النفسي هنا في بيروت؟ بالطبع، أشعر دائماً أنني في حاجة إلى حل، إلى علاج. لكن الأمر ليس في متناول يدي. ببساطة قد يكون صعب المنال كي لا أقول إنه مستحيل".

لا يوجد حتى اليوم دراسات محددة لنطاق وتأثير الصدمة النفسية، وتحديات الصحة النفسية، واضطرابات ما بعد الصدمة على الأطفال والكبار، كنتيجة للحرب السورية. ولم يتم تحديد أولوياتها من قبل وكالات الإغاثة المحلية والدولية، أو منظمات الإغاثة والحكومات.

لكن المديرة التنفيذية لجمعية Embrace، ليا زينون، تؤكد أن "التجارب والعوامل البيئية المحيطة باللاجئين، وأنماط حياتهم غير المستقرة، والتغيرات التي يشهدونها، تزيد من خطر تعرضهم لأعراض أو اضطرابات نفسية".

يتلقّى المتعايشون مع اضطرابات في الصحة النفسية خلال الحروب والأزمات، أو بعدها، أي علاج متوفّر وغير مكلف. وأحياناً تكون المساعدة في تقديم ما لا يحتاجون إليه حقيقةً، أو ما هو أقل منه.

الكلفة والوصمة
أحمد، ناشط فلسطيني سوري، يعمل في منظمة إغاثية، ويفضّل عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية عمله. من خلال خبرته في العمل ميدانياً مع اللاجئين في لبنان وسوريا، يمكنه القول إن "هناك حاجة أساسية للرعاية النفسية، لكل حالة بشكل فردي، أو مجموعات صغيرة جداً، ما يعني متطلبات مادية،  وتوفّر خبراء وأخصائيين، وهو أمر غير متاح". ويشير إلى تفضيل المانحين والمنظمات المحلية والدولية، التركيز على الاحتياجات الأساسية، أي الأمن الغذائي، والرعاية الطبية والإيواء، من دون تقديم الاهتمام والدعم الكافيين للصحة النفسية.

توجد أيضاً أسباب أخرى لعدم تلقي اللاجئين في لبنان العلاج النفسي اللازم. تلفت زينون، إلى أن "دراسات الجمعية أكدت وجود سببين يردعان المتعايشين مع اضطرابات نفسية من تلقي العلاج المناسب، هما كلفة العلاج المادية المرتفعة جداً في لبنان، والوصمة المجتمعية".

النتيجة أن الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة PTSD، والقلق المزمن، والميول الانتحارية وغيرها من الاضطرابات النفسية، التي تعاني منها سارة ومعها عدد كبير من اللاجئين، تبقى جروحاً مفتوحة غير مرئية. تقول مديرة Embrace، التي يهدف عملها إلى رفع الوعي حول الصحة النفسية في لبنان والشرق الأوسط، إن "جمعيات ومنظمات غير حكومية كثيرة عملت على دعم اللاجئين واحتياجاتهم، لكن التجربة المدمّرة التي عاشها اللاجئون، تتطلب العديد من المستويات التي يجب العمل عليها والاستجابة لها".

برامج الدعم
تقدّم غالبية الجمعيات التي تعنى بالعمل مع اللاجئين ما يعرف ببرامج الدعم النفسي الاجتماعي، خصوصاً للأطفال، كاستجابة منها للأزمات النفسية التي يمر بها هؤلاء. بالتأكيد هذه البرامج لا تكفي! يقول أحمد، الذي عمل في هذا المجال: "لا يمكن أن تكون هذه البرامج إلا فرصة ترفيه بسيطة للأطفال، الذين يتلقون الدعم النفسي الاجتماعي من خلال هذه البرامج. وهو أمر مختلف تماماً عن عملية العلاج النفسي الضرورية".

في دراسةٍ للهيئة الطبية الدولية، أجرتها في المراكز الصحية التي تدعمها، في الأردن ولبنان وسوريا وتركيا، تبيّن أن 54 في المئة من اللاجئين السوريين يعانون من اضطرابات عاطفية حادة، من ضمنها اضطراب القلق المزمن والاكتئاب. يليها الصرع بنسبة 17 في المئة، ثم الاضطرابات الذهانية ونسبتهم 11 في المئة. أما عند أطفال اللاجئين، فتشير الدراسة إلى معاناة 26,6  في المئة منهم من الصرع، ومواجهة 26.6 في المئة منهم اضطرابات في النمو العقلي والذهني. بينما يعاني 3.6 في المئة من اضطرابات عاطفية حادة.

العنف والانتهاك
الخسائر النفسية للحرب السورية كبيرة جداً. والعلاج يبقى متعذّراً. أما الأسباب التي تقف وراء هذه النسب الكبيرة من المصابين باضطرابات نفسية حادة، فهي لا تبدأ من الخوف وفقدان الأهل والأصدقاء، منهم قتلاً بقذيفة، ومنهم تحت التعذيب. ولا تنتهي عند حدود تشتت العائلة، والعيش في بلدان تمارس عليهم عنصريتها. أما الانتهاكات القائمة على النوع الاجتماعي، فتتطلب ملفاً مستقلاً. إذ تعاني لاجئات كثيرات، يومياً من عنف بدني وجنسي منزلي، وارتفاع حالات الزواج المبكر، والتحرش والاغتصاب... واللائحة تطول. 

الصحة النفسية ليست مجرّد غياب الاضطرابات النفسية، بل هي حالة من العافية يستطيع فيها كل فرد إدراك إمكاناته الخاصة، والتكيّف مع حالات التوتّر العادية، والعمل بشكل منتج ومفيد، والإسهام في مجتمعه المحلي. وهي حق أساسي من حقوق الإنسان، بحسب منظمة الصحة العالمية.  وقد يعتبر دمج الرعاية الصحية النفسية في بنية الرعاية الصحية الأولية التي تقدمها الحكومات للاجئين، خطوةً أولى في الاستثمار مادياً أكثر في مجال الصحة النفسية. فوفقاً لـدراسة نشرتها منظمة الصحة العالمية في شهر حزيران/يونيو الماضي، يعود كل دولار أميركي واحد يُستثمر في التوسع في علاج الاكتئاب والقلق، بفوائد قدرها أربعة دولارات أميركية تتأتى من تحسن الصحة والقدرة على العمل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024