"البرابرة" يدمرون ما تبقى من بيروت الفينيقية الرومانية العباسية

منى مرعي

الأربعاء 2019/02/27

تنشر "المدن" هذا التحقيق الموسع على جزأين. فما يجري لإرث بيروت يستحق اهتماماً استثنائياً، بل واستنفاراً لإنقاذ الذاكرة والتاريخ، ولصون ما تبقى من هوية بيروت الحضارية. فمن يستخف بطبقات آثارها وشواهد عصورها غير المنقطعة عن حياة لأكثر من ألفي سنة، ويطمس أو يدمر أو يسرق هذه الثروة، إنما يستبيح المدينة بماضيها وحاضرها ومستقبلها. البرابرة وحدهم يتجرأون على ذلك.  

"هذا الموقع هو ما تبقى من آثار.." فينيقية، رومانية، بيزنطية، عباسية أو غيرها. لربما تكون هذه الجملة الأكثر ترداداً خلال الجولة التي نظمتها حملة "أنقذوا موقع الباشورة الأثري"، والتي تخللها مرورٌ على عدة مواقع أثرية، انتهت بالسور الروماني المتواجد على حافة الخندق الغميق. المشكلة الأساسية، كما لمّح المنظمون، أن خطة إعمار ما بعد الحرب الأهلية لم تأخذ بالإعتبار أن بيروت تنام على كنوز أثرية دفينة، قد يعود بعضها إلى آلاف السنوات: ففي حين كان يجب أن يتم القيام بالحفريات الأثرية أولاً، ثم تصميم المخطط الإعماري ثانياً، على اعتبار أن مرحلة إعادة الإعمار هذه قد تكون فرصة استثنائية لتمتين علاقتنا مع إرثنا، ولمعرفة ما تكتنفه هذه المدينة في طياتها من تاريخ، إلا أن كل ما تمّ هو طمسٌ آخر للذاكرة. هكذا تجزأّت بيروت القديمة كأنها جثة أميتت تدريجياً، وتم تقطيع آثارها، وأُتلف الكثير من مواقعها، بينما يبقى بعض أجزائها مطموراً إلى أجلٍ غير مسمّى. كل موقع أثري من مواقع بيروت القديمة، هو عبارة عن جزيئات يتحكم بها التقسيم العقاري الحديث، ولم يسنح للعلماء الأثاريين أن يلموا شمل تلك "الجزيئات"، أو في أقل الإيمان الحفاظ على ما اكتُشِف منها. إذ دُمِّر معظمها، بين العام 1993 و1999، كما تذكر الورقة البحثية التي أعدها دومينيك بيرينغ، مدير مركز الآثار التطبيقية في جامعة لندن، تمّ الكشف عن حوالى 124 موقعاً أثرياً في بيروت. ويرجح أن عددها قد فاق مع مرور السنوات المئتي موقع : لم يبق منها اليوم إلا سبعة مواقع أثرية.

حكاية المرفأ الفينيقي
على مسافة من مبنى ستاركو وأمام عمارةٍ زجاجيةٍ ضخمة، انطلق ما يقارب المئة شخص من المنشأة البحرية، أو من الميناء الفينقي. تعود حكاية المنشأة البحرية إلى عام 2011، واعتبر آنذاك العقار رقم 1398 من منطقة ميناء الحصن العقارية موقعاً فريداً، إذ يوجد أربعة نماذج منه في العالم: نموذج في قبرص، وآخر في قرطاج، وواحد بفلسطين المحتلة. وكاد أن يكون هنالك نموذج رابع في لبنان. اختلفت الآراء حول تصنيف هذا الموقع الأثري: البعض اعتبر أن هناك كل الأدلة اللازمة، التي تؤكد احتمال اكتشاف مرفأً قد يعود تاريخه إلى الحقبة الفينيقية والهلينيستية، وهنالك رأي اعتبر أن هذه المنشأة هي مقلع صخور للمرفأ نفسه، في حين وجد خبراء آخرون أن الموقع  لتصنيع وتصليح السفن الفينيقية، بسبب وجود منزلقين يسمحان بمرور السفن إلى مسافة من اليابسة، بعيدة نسبياً عن الشاطئ. وبالرغم من عدم الحسم في أمر المرفأ، الا أن معظم الخبراء اتفقوا على أهمية إكمال عملية البحوث. وفي 21 نيسان عام 2011، أرسل أسعد سيف تقريره، مستنداً إلى مدير الحفرية الأثري هشام الصايغ، إلى وزير الثقافة سليم وردة، وشدّد في كتابه "على أهمية المكتشفات التاريخية لناحية إمكانية ارتباطها بمرفأ محتمل، وفقاً للمنشورات التاريخية، وعلى أهمية المكتشفات العلمية، والتي ستسمح بدراسة التوسع العمراني لبيروت في الفترات التاريخية القديمة". وخلص في تقريره إلى حتمية "المحافظة على المكتشفات [في موقعها] وعلى كامل الحوز الصخري"، وعلى تسجيلها في "لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية"، مع استكمال الدراسات العلمية والأثرية على المكتشفات، من قبل متخصصين من أجل التأكد من النواحي العلمية والعملية والتاريخية..". إثر هذا الكتاب قام الوزير الوردة بإدراج العقار 1398 ضمن لائحة الجرد العام، وتم توقيف أعمال شركة فينوس العقارية بتاريخ 4 نيسان 2011. ولدى تسلّم غابي ليون وزارة الثقافة في العام نفسه، تم العودة عن قرار إدراج الجرد العام، بتوصية من صاحب التقرير نفسه الأول أي أسعد سيف، وعادت أعمال البناء لتدمر شيئاً فشيئاً الموقع، الذي اتفق الجميع على أهميته. تزامناً مع إصدار قرار الوزير الجديد (قرار 70) الذي يفيد بعدم أهمية الموقع، توالت مجموعة من الرسائل من متخصصين من حول العالم: وجد الأستاذ الجامعي من جامعة أوكسفورد، دافيد بلاكمان، أن هذا الموقع ذو أهمية كبرى، وهو يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد. كما قد يكون مؤشراً عن دور الفنيقيين في هندسة المرافئ في العصرين البرونزي والحجري. كما ذكر البروفيسور الفرنسي، جان إيف أمبيرور، أن هكذا مواقع تُعد على أصابع اليد الواحدة، ووجب الحفاظ عليها وإبراز قيمتها، كي تتمكن الأجيال القادمة من تقدير عظمة إنجازات أجدادهم..". كثرت الرسائل حول المنشأة البحرية الفينيقية في مينا الحصن، وبالرغم من تقديم جمعية "التجمع للحفاظ على التراث اللبناني" استدعاء لدى قاضي الأمور المستعجلة، بوقف أعمال البناء، إلا أنه وفي أحد الصباحات الباكرة، عندما أتى مباشر المحكمة لتنفيذ حكم توقيف الأعمال مجدداً، وجد أن الموقع قد تمّ جرفه تحت الظلام، وانتهت حكاية الميناء الفينيقي، أو ما عُرف بالحوض الجاف للمرفأ الفينقي إلى غير رجعة.

إخفاء المواقع الأثرية
يقال أنه تمّ نقل الفخاريات إلى المديرية العامة للآثار وتمّ التلاعب باللقى الفخارية.. وتم تدمير بعض الآثار الفينيقية. وكمدونات لم يبق إلا القليل، ومنها ما يعود تحديداً إلى الفترة الرومانية. هذه الحكاية، هي نموذج بسيط عن سياسة متبعة وممنهجة منذ ما يقارب الثلاثة عقود، في تهميش قيمة الآثار لصالح نفاذ العقار، كائناً من كان صاحبه. يكفي تذكّر تفكيك ميدان سبق الخيل الروماني على العقار 170 في بيروت، وتفكيك المسرح الروماني في العقار 155. والتفكيك أو التدمير ليسا الطريقة الوحيدة في تهميش أو إلغاء القيمة الأثرية لبيروت. هنالك طرقٌ متبعة أخرى كمنطق "الدمج"، الذي لا يعرَف على أي أسس علمية تم أرساءه. وهنالك منطق "التضليل" أو عدم توفير أبسط المعلومات عن هذه المواقع، في الفضاءات العامة. وفي كلا الحالتين تتحوّل وظيفة الموقع الأثري، من موقع له قدسية ما في حفظ التاريخ والذاكرة، إلى غرض تزييني وسط هندسة معمارية معاصرة.

في أسواق بيروت بالقرب من سينما سيتي، هنالك مبنى اسمنتي مغلق. البوابة تستطيع أن تظهر داخل المبنى حفريات أثرية. هنا تمّ الكشف عن موقع فينيقي آخر في بيروت. أثبتت طبيعة البناء أنه يعود إلى الفترة الفينيقية. الموقع مخفي داخل البناء المقفل وغير واضح للعيان. جزء من الموقع تمّ تدميره، بسبب أعمال البناء المحيطة، ومن الواضح أن عملية "الدمج" بين موقع أثري وبين مبنى معاصر، يعود لملكية خاصة، تشوبها الكثير من التساؤلات، سيّما فيما يخص موضوع الإتاحة وموضوع ملكية الموقع: كيف لموقع أثري أن يكون تابعاً لملكية خاصة؟ وما هي تداعيات هذا الأمر على إتاحة هذا الموقع للناس؟ الجواب يبدو واضحاً. قد يمر الواحد منا مئات المرات بالقرب من هذا المبنى، المغلق لأجلٍ غير مسمى، من دون أن أعرف أن فيه معلماً أثرياً فينيقياً نادراً، ويُقال أن هذا الموقع المعروف بموقع رقم 0/10، يعود للقرن السادس قبل الميلاد.

(غداً، الجزء الثاني والأخير.. لبداية ملف لا يجوز إغلاقه)

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024