عاشوراء جنوباً: صناعة المشهديات الإيرانية

وليد حسين

الأحد 2019/09/01

لا يستطيع زائر الجنوب في بداية أيام عاشوراء ألا يلاحظ كثرة المضافات المنتشرة في القرى الشيعية، إضافة إلى اللافتات والشارات السود الكبيرة المرفوعة في الطرق، والثياب السود التي يرتديها الشبان خصوصاً.

عاشورائية الحرب السورية
انتشرت هذه المظاهر بكثافة في السنوات الأخيرة، بعد تورط حزب الله شريكاً أساسيا في الحرب السورية، في إطار الصراع السني - الشيعي المندلع في المنطقة كلها، وفي ظل حاجة الحزب الخميني إلى ما يسمى "شد العصب الشيعي"، متوسلاً إحياء حادثة كربلاء ورفعها وبعثها قيامةً تأسيسية في استقطاب الشيعة وتجيشهم يومياً، أقله كمشاهدين أو مدعوين إلى موائد المضافات التي يتبرع بكلفتها مقتدرين من بطانة الدزب إياه. فتعمر تلك الموائد بما لذ وطاب من الأطعمة طوال الأيام العشر التي تنتهي بمشاهد مصرع الحسين والنجيع الحسيني.

زمان الهريسة والراحة
العارفون بشؤون المجتمع الجنوبي ومعايشوه، لا يترددون في القول إن انتشار المضافات على هذا النحو، حديث العهد في بيئتهم، وليس سوى عادة إيرانية، لم يشهد الجنوب مثلها من قبل، عندما كانت تُقدم الهريسة وراحة الحلقوم، فقط في نهار "الفلّة"، أي آخر أيام عاشوراء
ويروي بعض المسنين أن الشيعة التقليديين والمسنين غالباً ما كانوا يكتفون باللباس الأسود حزنا على الحسين في أيام عاشوراء. وانحسرت هذه الظاهرة كثيراً في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، مع كثافة الهجرة إلى المدينة، تغلل اليسار في بيئتهم وبين الشبان المتعلمين. وكانت أيام عاشوراء آنذاك بلا لافتات ولا أعلام ولا شارات حسينية. وكان جل ما تشهده القرى قراءة الرواية الكربلائية في مجالس عزاء توزع فيها "الراحة والبسكويت" عن روح أب عبد الله. أما الهريسة فكانت تحضرها بعض النسوة، وتوزعنها على الأقارب والجيران يوم "الفلة"، أي في اليوم العاشر الذي شهد مصرع الحسين.

بين الخجل والخوف
مع تغلل حزب الله وثقافته ومشهدياته، وحاجته إلى استقطاب الشيعة والحجر عليهم في حمأة الصراع الطائفي، بات الجمهور الشيعي - حتى من هم خارج الثنائية الشيعية ويعاضونها - ينساق كله بالخجل والخوف من الإقصاء والحُرم، إلى المشاركة في المظاهر العاشورائية.
فمنذ نحو سنوات خمس - يقول بعض سكان القرى - انتشرت ظاهرة جمع التبرعات لإنشاء المضافات على الطرق في معظم القرى. فراح المتمولون يتبارون ويفاخرون في التبرع بإقامتها، وتزويدها يوميأ بالأطعمة لتوزيعها على المارة. ويصار أحياناً إلى جمع التبرعات من السكان للمضافات. أو تعمد بعض البيوت إلى طبخ الهريسة وغيرها من الأطعمة لتقديمها يومياً في المضافات عن أرواح موتاهم.
تختلف نوعية الأطعمة من قرية إلى أخرى، وفق أحوال الأهالي المادية. ففي بعض المضافات تقتصر العطاءات على القهوة والشاي والمشروبات الغازية وراحة الحلقوم، بينما يقدم في بعضها الآخر الحساء وسندويشات الدجاج والفلافل وغيرها من الأطعمة الساخنة والفواكه والحلويات، إلى جانب الهريسة.

إلى ذلك انتشرت ظاهرة اللافتات السود المدونة عليها عبارات مثل: "ما تركتك يا حسين" و"السلام عليك يا أبا عبد الله" و"الحسين مني وأنا من الحسين"، وسواها من اللافتات الموقعة باسم العائلة الفلانية أو المتمول الفلاني، التحاقا أوتقرباً من حزب الله أو حركة أمل، اللذين يمثلان الشيعة في السلطة.

تطبير الأزمنة الخوالي
لا أذكر من عاشوراء إلا راحة الحلقوم التي كانت توزّع في البيوت. أما الهريسة فأذكر أن قريبة لأبي طبختها مرة واحدة وأحضرت لنا صحناً واحداً منها، فحسب، رغم عدد أفراد أسرتنا الكبير. وفي طفولتي لم أشهد مسيرات عاشورائية، سوى مرة واحدة في النبطية منذ حوالى ثلاثين عاماً. وأصبت بصدمة عندما رأيت ثلة من الشيوعيين الثملين يرتدون سترات غيفارا التي تلطخت بالدماء من كثرة تطبير رؤوسهم (تشطيبها بالموسى) على ترداد كلمة: "حيدر، حيدر، حيدر"، وتركت الأمواس في جباههم أثلاماً دامية.
وليس مستغرباً اليوم ما قامت به منظمة لبايا الشيوعية، بنصبها لافتة ضخمة حمراء، على جانبها العلم الشيوعي، وتتوسطها عبارة: " وطني أراك كما الحسين شهيداً مظلوماً".
حتى مجالس العزاء في حسينة قريتي كانت تمرّ خافتة، غير مرئية ولا مشهدية ولا صاخبة، ويقتصر حضورها على بعض المسنّين والكهول.

أما اليوم فباتت مجالس العزاء تبث من مكبرات الصوت، ويشارك فيها الصغار الذين تدمى جباههم الغضة، قبل الكبار. وقد ذهبت المغالاة بأحد شيوخ قريتنا، أثناء تلاوة السيرة الحسينة الكربلائية، منذ بضع سنوات، إلى البكاء على تلقي الحسين أكثر من سبعين ألف سهم في صدره. فتصدى له أحد المسنين أمام الجميع قائلاً: "ما هذا الهراء، هذه الغابة من السهام لا يتسع لها البيدر، فكيف اتسع لها صدر الحسن؟!".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024