تظاهرة العاملات الأجنبيات بوجه عنصريّة اللبنانيين وقوانينهم

وليد حسين

الإثنين 2019/05/06
في تظاهرة لم يتجاوز مسارها مشياً على الأقدام ساعة من الوقت، عبّرت العاملات الأجنبيات عن معاناة مئات الآلاف منهنّ، من قهر واستعباد في عملهنّ في منازل اللبنانيين، منذ عشرات السنوات. بهتافات صدحت باللهجة اللبنانية المطعّمة بلكنات لغاتهن، وشعارات صيغت بمعظم اللغات الأجنبية والعربية، أعربت مئات العاملات (وبعض العمّال) اللواتي مشين في التظاهرة، عن سخطهنّ من القوانين اللبنانية التي "تنظّم عملهنّ". والأهم، سخطهن أيضاً من أرباب العمل، حيث في منازلهم يتجلّى التعامل الفوقي والاستعلائي، إضافة إلى الاستغلال الجسدي والمعنوي، وصولاً إلى سوء المعاملة إلى حد الجناية. ومهما اختلف التعامل معهنّ من منزل إلى آخر، بفعل "تمدّن" من هنا، أو التحلّي بحسّ إنساني من هناك، فهذا لن يخفّف من وطأة معاناتهنّ لتواجدهنّ في منازلنا، بفعل "نظام كفالة"، الذي هو بنهاية المطاف بمثابة وثاق مشدود على رقابهنّ. فهنّ، وقبل قدومهنّ إلى لبنان تراهنّ حافظات لأهم الدروس المستخلصة من أقرانهنّ العاملات اللواتي سبقهن إلى هنا، عن نظام الكفالة وما يمنحه لأصحاب العمل من سلطة في التحكّم في بقائهنّ على الأراضي اللبنانية. وهذا وحده يقسرهن على الخضوع والإذعان لأهواء ورغبات الكفيل.  

انتفاضة 
"أنا هون تا طالب بحقوقي.. أنا مش شرمـ(..) تا يقلي يالله يالله طلعي حقك ألف ليرة.. وإذا كان لوني أسود وأنت أبيض شو بتفرق يعني؟"، تقول عبارتها بصوت غاضب. وقد يبدو كلامها خارج إطار الرد على استفسارنا عن طبيعة مطالب تلك السيدة الأثيوبية المتظاهرة. لكنه رد يقع في صلب معاناة العاملات المنزليات مع القوانين اللبنانية وأرباب العمل. فمعظم المشاركات في هذه التظاهرة، التي مشت من تقاطع السوديكو وصولاً إلى حديقة المفتي حسن خالد، بجانب دار الإفتاء، هنّ من العاملات اللواتي انتفضن ضد أصحاب العمل، وهربن من منازلهنّ، وبات تواجدهن في لبنان غير شرعي حسب القوانين "الناظمة". وبتن عرضة لمضايقات المارة، وذكوريّتهم الفالتة، عندما يتجوّلن على الطرقات.

اهتمام وسائل الإعلام
"الكفالة = عبودية حديثة"، و"مش شرعيين ما بتعني مجرمين"، و"عمال مش عبيد"، و"عاملو المنازل هم عمّال أيضا، اشملونا بقانون العمل"، و"على السلطات اللبنانية حمايتي عندما أتعرّض للانتهاكات"، عيّنة من شعارات مطبوعة كتبت باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية، رفعها المشاركون في التظاهرة ضد القوانين اللبنانية العنصرية، لفضح بشاعتها أمام الرأي العام العالمي، خصوصاً أنّ إحدى الجهات الداعية للتظاهرة هي "منظمة العفو الدولية"، وبحضور العديد من الوسائل الإعلامية الأجنبية والعربية لتغطية الحدث. إلا أنّ بعض الشعارات البسيطة، التي كتبت بخطّ اليد، مثل "من حقّي استقيل"، و"أعطني حرّيتي أطلق يديّا"، و"أنا مش نمرودة إذا طالبت بحقّي"، و"من حقّي حب وإنحبّ"، فتمسّ الغالبية العظمى من اللبنانيين، وتفضح طبيعة التعامل مع العاملات الأجنبيات. وهذه حال الهتافات التي صدحت بها حناجرهنّ طوال المسيرة مثل "يا مدام قولي الحق باسبوري معك ولاّ لأ.. يا مدام قولي الحق بتعطيني معاشي ولاّ لأ. يا مدام قولي الحق ضربتي فينا ولاّ لأ.. بكرا عيد بكرا عيد وبدنا نحط نظام جديد.. مش خيار مش خيار، الكفالة هي إتجار".

وجهة مستغربة
في ظل الانتهاك الفاضح لحقوق عاملات المنازل، خصوصاً لناحية طريقة استقدامهنّ إلى لبنان، بما فيها من إتجار موصوف بالبشر، وفي ظل نظام الكفالة المتحكّم بمصيرهنّ، بدا مستغرباً أن يقرّر المنظّمون سير التظاهرة إلى حديقة المفتي حسن خالد، حيث لا مقرّات حكومية معنيّة لرفع صوت الحقوق في وجهها. إذ يفترض المراقب أنّ المكان المناسب الذي يجب أن تنتهي إليه تلك التظاهرة هو السراي الحكومي، أو مجلس النواب، أو وزارة العمل المعنيّة بشكل مباشر. أما تبرير المنظّمين فبدا غير مقنعٍ، إذ وقع خيارهم على إنهاء التظاهرة في تلك الحديقة كي تستظلّ المتظاهرات بأشجارها، والتعبير عن أنفسهنّ وإلقاء الخطب، كنوع من التغيير عمّا هو معتاد في السنوات السابقة. وبالتالي قرّروا هذا العام السير في ذاك الشارع المكتظ بالسكان من السوديكو إلى الحديقة، للإسهام في وصول الصوت إلى داخل البيوت. وفي هذا، ربما، لم يجانبوا الصواب في خيارهم أيضاً. إذ خرج معظم السكان إلى شرفاتهم لالتقاط الصور ومعاينة هذا المشهد الغريب عنهم، كما دلّت بعض الوجوه المشدوهة والمنزعجة، والأسوأ، أنّ بعضهم كان برفقة العاملة المنزلية، كما لو أنهم غير معنيين بصراخ الشارع. لكن من حظّ بعض العاملات، اللواتي خرجن بمفردهنّ إلى الشرفات، عدم وجود أصحاب المنزل، إذ كادت الحماسة تؤدي بإحداهنّ إلى السقوط من الشرفة، وهي تحيّي وتنتصر لصوت قريناتها في الشارع. وفي هذا انتصار للتظاهرة من إمكانية انضمام المزيد من العاملات إلى التحرّكات المطلبية اللاحقة، وصولاً إلى حياة كريمة ولائقة والتخلص من نير العبودية الحديثة.

دينامية كبيرة
قد يبدو مشهد هذه التظاهرة معاد ومكّرر وفلكلور سنوي اعتاد عليه المنظمون. فوجوههم مألوفة، عاملات وقيّمون على المنظّمات غير الحكومية، كما قال أحد المصوّرين الصحافيين الذي واكب تحركاتهم لسنوات عدّة خلت. لكن تعليق الباحثة في "العفو الدولية" ديالا حيدر على هذا الانتقاد، الذي يسري على معظم التظاهرات اللبنانية المطلبية، يعاكس النظرة اليائسة في التغيير. ففي حديث إلى "المدن"، اعتبرت حيدر إنّ التحرّكات التي جرت في السنوات السابقة لم تكن هباءً منثوراً. فمعظم العاملات المشاركات بتن اليوم متمكّنات وقياديّات ضمن مجتمعاتهن المهاجرة. وأصبحن صوتاً للعاملات اللواتي يتعرّضن للانتهاك لإرشادهنّ إلى المنظمات المختصة للتبليغ عن الانتهاكات. وهذا ساهم في إيجاد ديناميّة كبيرة ضمن مجتمعاتهنّ، تشكّل لهنّ نوعاً من الحماية. كما أنّ التحرّكات أدّت إلى رفع عدد المطالبات بحقوقهنّ، إسوة بالمبادرات التي يقمن بها، على المستوى الفردي والجماعي. كما بات هناك حساسيّة معيّنة لدى الوسائل الإعلامية في تناول قضايا العاملات، وبات هناك اهتمام من الوسائل الإعلامية العالمية، وهذا يشكّل حرجاً للسلطات اللبنانية. والأهم من كل هذا، لأول مرة هناك وزير للعمل قال وبشكل واضح إنّ نظام الكفالة هو بمثابة نظام للعبودية. فالوزير كميل أبو سليمان محام، ويعرف جيداً معنى ما يقول. وهذا يعطي جرعة أمل كبيرة في تغيير الواقع الحالي. حتى أنّ الوزير شكّل مجموعة عمل داخل الوزارة تضمّ "منظمة العفو الدولية" ومنظمة "هيومن رايتس ووتش"، و"المفكرة القانونية"، و"كفى"، و"كاريتاس"، تنسّق بينهم "منظمة العمل الدولية"، وسترفع المجموعة التوصيات اللازمة لتفكيك نظام الكفالة إلى الوزارة في الخامس عشر من الجاري.

الواقع النقابي
وعلى خطى إحقاق حق العاملات وعمال المنازل أسّس "الاتحاد الوطني للعمال والمستخدمين في لبنان" نقابة لهم في العام 2015 وباتت تضم مئات العاملين، شارك بعضهنّ في تظاهرة اليوم. لكن ملف النقابة ما زال عالقاً في وزارة العمل، إسوة ببقية النقابات التي ليس لديها انتماء مذهبي وطائفي وتحارب الإتجار بالبشر، كما قال رئيس الاتحاد كاسترو عبد الله. وأضاف إنه يوجد في لبنان نحو 250 ألف عاملة وعامل يحملون الوثائق الرسمية، والآلاف من الذين لديهم إشكاليات في أوراقهم، وغيرهم آلاف من العاملات اللبنانيات والفلسطينيات والسوريات وغيرها من الجنسيات العربية، يعملن من دون أي ضمانات وحقوق، ما يستدعي توقيع لبنان على الاتفاقية الدولية رقم 189، الخاصة بالعمل اللائق للعاملات في الخدمة المنزلية، وتطبيق الاتفاقية 87 الخاصة بحق التنظيم النقابي.

مطالب مزمنة
باللغة العربية التي خُطّت بالأحرف الأمهريّة، تلت إحدى العاملات الأثيوبيات، المطالب الأساسية للعاملات والعمال الأجانب في الخدمة المنزلية. ورفعت صوتها معيدة ومكرّرة المطالب التي ما زلن ينادين بها منذ عشر سنوات، كما قالت، وهي: إلغاء نظام الكفالة المقيّد للحريّات، واستبداله بقوانين هجرة عادلة، وضم عاملات المنازل إلى قانون العمل، ووقف الاحتجاز الإداري لعاملات المنازل، ضحايا العنف والاستغلال، كذلك وقف احتجاز وترحيل العاملات اللواتي ينجبن أطفالاً ويُنشئنَ عائلات في لبنان، ومراقبة عمل مكاتب الاستقدام والتشدد بمعاقبة كافة المنتهكين والمسيئين لحقوق عاملات المنازل، والتحقيق الجدّي في حالات موت العاملات، والملاحقة القانونية الفعلية للمعتدين على عاملات المنازل.
 
في كل الاحوال، تتفوق هذه التظاهرة على تظاهرات اللبنانيين في أمر جوهري، أنها ليست طائفية ولا تمييز فيها بين الأعراق والثقافات والجنس. وهذا يستدعي شعوراً بالخجل لدى اللبنانيين عدا عن وجوب شعورهم بالعار من تلوثهم بالعنصرية وفساد الأخلاق.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024